بعد ثورة الياسمين والتوافقات السياسية التي تمت بين القوى السياسية التونسية علمانية وإسلامية تم وضع الدستور 2014 وكان المشرع التونسي عند كتابة الدستور حريص كل الحرص على عدم عودة حالة الاستبداد وحكم الفرد المطلق إلى تونس فعمد الدستور التونسي إلى اعتماد النظام البرلماني الأغلبية أو الائتلافات البرلمانية في تشكيل الحكومات وأعطى الرئيس بعض السلطات مثل الدفاع والخارجية وجعل القضاء سلطة مستقلة ضابطه لإيقاع المشهد السياسي إذ تم النص على إنشاء محكمة دستورية تختص بتفسير نصوص الدستور وتفصل في حالات الاختلاف حولها.
الديمقراطية التونسية وعجزها عن إحداث التنمية
الفلسفة التي قامت عليها فكرة الديمقراطية وحكم الشعب والاحتكام للصندوق هي قدرة الصناديق على أن تستخرج أفضل ما في المجتمع من قدرات وكفاءات لإدارة المال العام وقيادة مؤسسات الدولة نحو التنمية ورفاه الشعوب، إلا أن الديمقراطية التونسية عجزت عن تحقيق ذلك للشعب التونسي طيلة عشرية الثورة والديمقراطية وحكم الشعب والحرية الكبيرة التي تمتعت بها الحياة السياسية التونسية لكن مؤشرات الفساد لم تنخفض وبات واضحا أن حكومات الائتلافية والمحاصصة كانت عاجزة عن مواجهة الفساد وإحداث تنمية.
قانون الانتخاب التونسي انطوى على عيب جوهري وكبير إذ أنه جاء خاليا من العتبة الانتخابية إذ مكن هذا القانون الأحزاب الصغيرة من الوصول إلى مجلس النواب فتم ميلاد مجالس نيابية متعاقبة معلقة بالمعنى السياسي إذ لا يمتلك أي حزب في تونس أغلبية برلمانية أو أي قدرة على تشكيل الحكومة البرلمانية بمفرده إذ حصلت أكبر كتلة في المجلس الأخير الذي جمده الرئيس الحالي ثم حله على 52 مقعداً من أصل 217 مقعداً.
بعض القوى الحزبية الصغيرة التي وصلت إلى البرلمان لعدم وجود عتبة انتخابية هذه القوى محسوبة ومدعومة على بعض الدول المناوئة للربيع العربي لم تكتفي في محاولة تعطيل و إفشال البرلمان في تحقيق إصلاحاته بل كانت هذه القوى تسعى إلى ترذيل العمل البرلماني وإظهار نظام الحكومة البرلمانية كرديف للفوضى وعدم الاستقرار وإظهار البرلمان كعاجز عن تسييل الحياة الديمقراطية إلى منجزات تنموية على الأرض ترافق كل ذلك مع تفكك الكتلة العلمانية الكبيرة “نداء تونس” التي كان يقودها الرئيس الراحل القائد السبسي وتشظي الحزب إلى عدة أحزاب علمانية متفرقة فتعقد المشهد السياسي وجعل التحالفات والائتلافات البرلمانية تتم بمشقة سياسية كبيرة
وجد الرئيس قيس سعيد القادم من حالة العدم السياسي والذي لا توجد له أي خلفية سياسية أو نضالية ضد استبداد نظام بن علي والذي صعد إلى سدة الرئاسة بنسبة كبيرة كخيار عقابي من الشعب التونسي للأحزاب السياسية لعجزها عن تحقيق التنمية والرفاه للشعب بعد الثورة وتقديم الرجل خطاب ثوري حول قضية فلسطين في مجتمع معروف بحسه العروبي والقومي العالي وتقديسه لمظلومية الشعب الفلسطيني، في ظل كل هذه الظروف وجد الرئيس الفرصة سانحة للتقدم بمشروعه السياسي القائم على فكرة تفكيك حكم مؤسسات الدولة وإعادة بناء النظام السياسي وفقا لتصوراته التي يؤمن بها، فالرجل لا يؤمن بالعمل الحزبي ولا يؤمن بالحكومات البرلمانية ولا يؤمن بتوزيع السلطة فكان حريص كل الحرص على استثمار هذا المناخ السياسي المتلبد لتطبيق مشروعه والتخلص من حكم المؤسسات لصالح حكم الفرد المطلق.
تنبهت القوى السياسية مبكراً لمشروع قيس سعيد في تفكيك حكم المؤسسات والتحول إلى حكم الفرد الذي يمكن أن يتحول إلى سلطة مطلقة تعيد بناء الدكتاتورية من جديد فتم تقديم مجموعة من المشاريع في تعديل قانون الانتخابات البرلمانية في وضع عتبة انتخابية تنهي حالة البرلمانات المعلقة وتوجد أغلبية حزبية قادرة على تشكيل حكومات برامجية بعيداً عن المحاصصة والائتلافات الرخوة التي يمكن أن تعيد ترميم النظام السياسي القائم وتتخلص من الإفرازات السياسية غير المرغوبة التي ظهرت طيلة عشرية حكم ثورة الياسمين، وكذلك عملت هذه القوى على تسريع المصادقة على قانون المحكمة الدستورية، لكن خطة الرئيس كانت تسابق الوقت في تفكيك حكم المؤسسات وقطع الطريق على أي محاولة إصلاح للنظام السياسي القائم وبناء نظامه السياسي الجديد.
خطوات الرئيس في تفكيك حكم المؤسسات
قام الرئيس التونسي منذ عام تقريباً على تطبيق خطته في تفكيك حكم المؤسسات لصالح حكم الفرد المطلق وتركيز جميع السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بيده معتمدا بذلك على خطاب يعد فيه الشعب التونسي بمطاردة الفساد باعتبار الفساد بوابة الإصلاح الأولى وجلب الرفاه وحل مشكلات تونس المستعصية مستغلا ظروف جائحة كورونا التي فاقمت الأزمة الاقتصادية لكل دول العالم الثالث، متهما المنظومة السياسية التي حكمت بعد الثورة بعجزها عن محاكمة الفساد ومكافحته، وتزهيده في فكرة تقاسم السلطة وتنوعها ووصفها باعتبارها مرض سياسي لا آلية لحماية الحياة الديمقراطية وحكم الشعب والذي لا زال الشعب التونسي حديث عهد به، فعمد الرئيس الى تفكيك حكم المؤسسات من خلال عدة إجراءات وخطة زمنية محكمة ومتسلسلة.
في أبريل 2021 رفض الرئيس التونسي المصادقة على قانون المحكمة الدستورية والتي تتشكل من 12 عضواً يختار الرئيس 4 أعضاء ويختار البرلمان 4 أعضاء ويختار المجلس الأعلى للقضاء 4 منهم وتختص المحكمة الدستورية في النظر بصحة مشاريع تعديل نصوص الدستور والقوانين والنزاعات المتعلقة باختصاص الرئاسة والحكومة، إلا أن رفض الرئيس المصادقة على قانون المحكمة الدستورية ليبقي لنفسه حق تفسير نصوص الدستور والقوانين وفقا لرأيه الشخصي ويستفيد من غياب هذه الجسم القضائي في تطبيق خطته في إعادة بناء النظام السياسي التونسي وفقا لتصوراته.
في 25/ 7/ 2021 قام الرئيس بإقالة الحكومة التي كانت توصف بحكومة الرئيس بعد تعديل رئيسها هشام المشيشي فريقها الوزاري وإخراج وزراء الرئيس من الحكومة، كما قام الرئيس بتجميد أعمال البرلمان وإغلاقه بالقوة الجبرية قوة الجيش والأجهزة الأمنية وإعلان حالة الطوارئ والاستيلاء على جميع السلطات التنفيذية والتشريعية وتركيزها في يده مخالفا بذلك نصوص الدستور بشكل صريح لا يقبل التأويل.
في فبراير 2022 قام الرئيس التونسي بحل المجلس الأعلى للقضاء واصفا القضاء بأنه وظيفة لا سلطة فوق سلطة الدولة وأصدر مرسوم يمنح نفسه سلطة مطلقة بعزل القضاة والاعتراض على ترقيتهم، متهم المجلس القضائي الذي حله بالعمل لتحقيق مصالح سياسية متهم القضاة أن بعضهم يجب أن يكون في قفص الاتهام لا على منصة القضاء
في نهاية شهر مارس من عام 2022 قام الرئيس التونسي بحل البرلمان بعد جلسة للبرلمان عقدها المجلس عن بعد، اعتمد الرئيس في قراره على نص الفصل (72) من الدستور والذي لا يوجد فيه أي إشارة إلى حق الرئيس في حل المجلس إلا تأويل الرئيس نفسه للنصوص الدستور.
شكل المشروع السياسي الذي يبشر به الرئيس التونسي
بعد أن قام الرئيس بتفكيك السلطات الثلاث وتركيزها في يده ويسعى إلى بناء نظام سياسي جديد بدأت تظهر معالمه من خلال الاستشارة أو الاستفتاء الإلكتروني الذي أطلقه من منتصف يناير 2022 إلى 20 مارس من هذا العام إذ شارك في هذا الاستفتاء كل من بلغ عمر 16 سنة فما فوق، وقد شارك في هذا الاستفتاء 535 ألفاً تقريباً من أصل 7 ملايين و155 ألفاً ممن يحق لهم الانتخاب في عام 2019 ممن تجاوز سن 18 بنسبة قد تكون المشاركة أقل من 5% ممن يحق لهم التصويت، إذ سيكون أبرز معالم مشروع الرئيس السياسي في بناء نظام سياسي جديد من خلال تحليل نتائج الوثيقة أو الاستفتاء الإلكتروني:
أولاً: التحول من النظام البرلماني حكومة الأغلبية البرلمانية إلى النظام الرئاسي إذا أشارت نتائج الاستفتاء إلى رغبة 84% ممن شارك في الاستفتاء بالتحول من النظام البرلماني (الحكومة البرلمانية) إلى النظام الرئاسي، النتائج التي حققها الرئيس في الانتخابات الرئاسية وحصوله على 72% من أصوات الشعب أغرى الرئيس في الذهاب إلى المطالبة بتعديل شكل نظام الحكم، فالرئيس يرى في تعديل شكل نظام الحكم فرصة للوصول إلى سدة الحكم بسلطات مطلقة
ثانياً: التحول من نظام القوائم الحزبية إلى نظام الفردي في الانتخابات البرلمانية، هذه خطوة يريد بها الرئيس إضعاف الأحزاب وجعل القبائل والمكونات الاجتماعية أحزاب سياسية مؤقتة في مواسم الانتخابات لتشكل رافعات الوصول للبرلمان، هذا النوع من الأنظمة الانتخابية تستخدمه الأنظمة الرئاسية الشمولية لإنتاج برلمانات خدمية تؤيد أصحاب السلطة المطلقة في تمرير مشاريعهم مقابل الأعطيات المالية والتوظيف الرسمي والخدمات الريعية لحواضن نواب القبائل والجهويات، إذ إن استخدام الجهويات المناطقية في الفرز السياسي يغيب الحس الوطني لصالح الحس المناطقي، ويحول النواب من نواب برامج سياسية ورقابة وتشريع إلى نواب خدمات واستجداء الأعطيات وتعميق النظام الريعي بدل النظام الإنتاجي، هذا النوع من النظم الانتخابية سيحول أعمال البرلمان إلى ديكور ديمقراطي منزوع الدسم غير قادر على ممارسة دوره في الرقابة والتشريع.
ثالثاً: تبديل بنية وشكل الهرم القضائي إذ أشار الاستفتاء إلى أن 75% يرون أن النظام القضائي بشكله الحالي لا يحقق العدالة، وفي ذلك يبدو أن الرئيس يريد أن يكون له سلطة مباشرة على الجهاز القضائي في التعيين والترقية والعزل ويحد من استقلال القضاء كسلطة ثالثة فهو يرى القضاء وظيفة لا سلطة من سلطات الدولة.
رابعاً: إلغاء الدستور وكتابة دستور جديد وإن كانت عينة الاستفتاء صوتت لصالح تعديل الدستور بدل إلغاء الدستور وكتابة دستور جديد، قد يكون هدف الرئيس من إعادة كتابة دستور جديد هو رغبة الرئيس أن يعود إلى سدة الرئاسة في دورتين قادمتين على أقل تقدير، فمجرد كتابة دستور جديد قد يفسر لصالح حق الرئيس للترشح إلى دورتين قادمتين، وعدم احتساب الدورة الحالية قبل كتابة دستور جديد من ضمن دورات حق الرئيس في الترشح مما يعني بقاءه في الحكم والسلطة المطلقة لعقد قادم إذا ما كتب لمشروع الرئيس إعادة بناء النظام السياسي الجديد في كتابة دستور جديد أو تعديل الدستور تعديل جوهري والتحويل من شكل النظام البرلماني إلى النظام الرئاسي وتحويل قانون الانتخاب من القوائم الحزبية إلى الانتخابات الفردية، وإعطاء الرئيس سلطة في تعيين القضاة وعزلهم وترقيتهم فإن شكل الدولة التونسية القادم سيتوجه ليكون جمهورية شمولية سوف تظهر إفرازاتها على شكل حكم دكتاتوري بعد فترة من الزمان وقد قيل في السياسة أن أسوأ أنواع الدكتاتوريات هي التي تولد من رحم الصندوق.