تتواصل ردود الفعل المحلية والدولية على الدستور التونسي الجديد، حيث تُجمع السلطة والمعارضة على أنه لم يتعدَّ حاجز الـ30% مما يحق لهم التصويت بقطع النظر عن نسبة من شاركوا بـ”نعم” وهم أكثر من 94%، حسب الرواية الرسمية التي تشكك فيها المعارضة، حيث تجاوز عدد المشاركين وفق البيانات الرسمية في بعض الجهات عدد السكان الإجمالي.
وهو تشكيك صدر من بعض القوى الكبرى كالاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، فضلاً عن جمعيات مراقبة الانتخابات، مثل “مراقبون” و”الشاهد” و”أنا يقظ”، علاوة على أحزاب شاركت بـ”لا” في الاستفتاء مثل آفاق تونس.
وإلى جانب التشكيك في الأرقام، هناك أسئلة أخرى مثل: هل يمكن تمرير الدستور الجديد بنسبة تقل على 50+1، وهل يمكن رفع التحديات الاقتصادية وبدرجة أولى العلاقة مع صندوق النقد الدولي بهذا الدستور؟
مخالف للمعايير الدولية
ويقول الخبراء: إنّ الاستفتاء ولد مشخصناً ومات مشخصناً.
وأوضحوا: لسنا إزاء انتخابات عادية تشريعية رئاسية أو بلدية، بل نحن إزاء استفتاء دستوري تأسيسي، وبالتالي فإن مشاركة نسبة أقل من 50+1 على الأقل من الجسم الانتخابي هي نسبة هشة وضعيفة جدًا، ثلاثة أرباع الجسم الانتخابي لم يشاركوا جملة وتفصيلًا في هذا الاستفتاء التأسيسي، ولا يهم هنا هل فيهم مقاطعون أو غير مهتمين.
وساق البعض جملة من الأمثلة حيث لا يكاد المرء يتذكر في التجارب الدستورية المقارنة استفتاءات باهتة المشروعية الضعيفة والهزيلة، ففي فرنسا دستور الجمهورية الفرنسية الخامسة، المؤرخ في 4 أكتوبر 1958، تم التصويت عليه بنسبة مشاركة ناهزت 79% من الجسم الانتخابي.
في إسبانيا، الدستور الإسباني لسنة 1978 تمت المصادقة عليه باستفتاء بلغت نسبة المشاركة فيه 67.1% من مجمل الجسم الانتخابي.
في إيطاليا، رفض الشعب الإيطالي التعديل الدستوري سنة 2006 الذي عرضه عليه رئيس الحكومة آنذاك Silvio Berlusconi والقاضي بتحويل الدولة الإيطالية من دولة موحدة بسيطة (ذات تنظيم جهوي) إلى دولة اتحادية بنسبة مشاركة في الاستفتاء بلغت 53%.
نفس السيناريو عرفه عام 2016 رئيس الحكومة آنذاك Matteo Renzi، حينما حاول تعديل الدستور وحذف مجلس الشيوخ الغرفة الثانية من البرلمان الإيطالي بعد اصطدامه برفض شعبي لمشروعه بعد نسبة مشاركة بلغت 65%.
في المملكة المتحدة، استفتاء “بريكست”، نسبة المشاركة فيه تجاوزت 70%.
في رومانيا، الدستور الروماني لسنة 1991 عرف تعديلًا مهماً عام 2003 تمت المصادقة عليه باستفتاء شارك فيه 56% من مجمل الجسم الانتخابي.
في بولونيا، الدستور البولوني لسنة 1997 رغم ضعف نسبة المشاركة في استفتاء المصادقة عليه، فإنها تجاوزت 43%.
وأشار الخبراء إلى أن هذا ما يفسر أن العديد من الأنظمة المقارنة تشترط نصابًا ضروريًا في المشاركة كي يقع اعتماد الاستفتاء ونتائجه.
ويؤكد الخبراء أنّ النسبة التي صوتت بنعم، أعادت فقط تجديد ثقتها في الرئيس قيس سعيّد (مع خسارة تقريبًا 700 ألف صوت مقارنة بالنسبة التي سجلت في الدور الثاني للانتخابات الرئاسية عام 2019) وأكدت الطابع “المشخصن” للاستفتاء، وهي بعيدة كل البعد عن النسبة المحترمة والمعقولة لبناء تأسيسي جديد.
دون اتفاق مع النقابات
وكالة “فيتش رايتينغ”، وفي تقرير لها، أمس الجمعة، رجّحت أن الدعم الدولي لتونس مستمر بعد الموافقة على الدستور الجديد، مضيفة أن تونس ستتوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي في النصف الثاني من عام 2022 مع استمرار رغبة المقرضين الرسميين في دعم البلد بعد الموافقة على الدستور الجديد.
بيد أن الخبير الاقتصادي التونسي عز الدين سعيدان يشكك في إمكانية ذلك، واستشهد بمواقف كل من الأمم المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي التي أشارت إلى إمكانية وجود تزوير في الانتخابات، وأن النسبة التي حصل عليها الدستور الجديد غير كافية والنتائج تنقصها الشفافية كما ورد في تلك التقارير.
ويقول سعيدان: إن ردود فعل الشركاء حول نتيجة الاستفتاء ربما تؤثر في المفاوضات مع صندوق النقد الدولي.
وأضاف سعيدان أن ذلك من شأنه أن يعمق الصعوبات في علاقة بالمفاوضات مع صندوق النقد الدولي، مذكراً بتصريح المسؤول السابق بوزارة الخارجية الأمريكية وليام لورانس الذي أكد أن بلاده بصدد مراجعة مختلف المساعدات المقدمة لتونس من حيث الكم والكيف.
واعتبر سعيدان، في هذا السياق، أن الوضع صعب، مشدداً أن على تونس إيجاد حل تونسي تونسي في أقرب وقت ممكن ويمكنها ذلك.
التمويل أو الإفلاس
الخطورة في تقرير الوكالة الدولية يكمن في إمكانية عقد اتفاق مع صندوق النقد الدولي بدون موافقة النقابات، وهو ما يعني موجة جديدة من الاضطرابات في تونس، حيث اعتبرت الوكالة أنه من الممكن أن تبرم تونس اتفاقاً مع صندوق النقد الدولي الآن دون اتفاق مع النقابات، نظراً لأن الدستور يوفر أساساً أقوى لتحرك تشريعي.
وتابعت “فيتش رايتينغ”: إننا نعتبر السلطات ملتزمة بالدخول في برنامج صندوق النقد الدولي، وما زلنا نتوقع التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي قبل نهاية العام.
لكن الوكالة أقرت بإمكانية عدم حصول تونس على التمويل، وأنه بدون هذا التمويل، نتوقع أن تتآكل احتياطيات تونس الدولية تدريجياً وأن تنخفض قيمة الدينار، وهذا من شأنه أن يزيد من عبء السداد المرتبط بالديون السيادية المقومة بالعملة الأجنبية، التي نقدر أنها تصل إلى حوالي 49% من الناتج المحلي الإجمالي.
وأكدت “فيتش رايتينغ” أنه دون إصلاح موثوق به، قد يُنظر إلى تونس في نهاية المطاف بأنها تتطلب جدولة ديونها في نادي باريس قبل أن تصبح مؤهلة للحصول على تمويل إضافي من صندوق النقد الدولي، مع ما يترتب على ذلك من آثار على دائني القطاع الخاص.
ودون تمويل، تتوقع فيتش تناقص احتياطيات تونس الدولية تدريجياً من 8.3 مليارات دولار في نهاية يونيو 2022 وانخفاض قيمة الدينار.
الخبير الاقتصادي عز الدين سعيدان خلص في تصريح لإذاعة “إي أف أم” الخاصة بأن قيمة الدين الخارجي لتونس يفوق 70 مليار دينار تونسي، ومستحقاته لسنة 2023 مرتفعة جداً.
وأضاف سعيدان أنه تم منذ يناير إلى الآن تسديد 5 مليارات دينار تونسي فقط من هذا الدين، مشيراً إلى أن تونس لديها الآن ما يكفي لتسديد هذا الدين، لكنه إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق مع صندوق النقد الدولي، فلن تتمكن من تعبئة أموال من العملة الأجنبية لتغطية نفقاتها، وهو ما يعني الإفلاس.