كل الملاحظين مُجمعون على أن بطولة كأس العالم في قطر 2022 ليست كمثيلاتها بكل المقاييس، لا لشيء إلا لكونها تُنظّم في بلد عربي مسلم أثبت جدارته في تنظيم هذا المهرجان الرياضي العالمي الذي أبهر الجميع.
وبغض النظر عن مستوى اللعب لكل فريق رياضي ونتائج المقابلات والتصفيات ومن سيكون الفائز بكأس العالم لهذه الدورة، فإن الوجه الآخر لهذه الدورة يتمثل في البعد الثقافي والحضاري، وما له علاقة بالقيم الإنسانية ومدى احترام مسألة التعددية والخصوصيات الثقافية.
ومن أهم المسائل التي أثارتها هذه الدورة أنها وضعت المنظومة القيمية الغربية على المحك، كما أنها أبرزت عمق روح التضامن العربي الإسلامي على مستوى الشعوب أساساً، ونبّهت إلى مركزية القضية الفلسطينية والهوية الإسلامية.
مخلفات الصورة الذهنية الغربية السلبية عن المسلمين
وأول ما يتوقف عنده الملاحظ هو حجم التدافع “بين الشرق والغرب” بسبب استضافة قطر لبطولة كأس العالم الذي انعكس في حملة شعواء على قطر والدعوة لمقاطعاتها بناء على حجج واهية، ويُرجع المفكر الكويتي محمد سالم الراشد الأسباب الحقيقية لذلك إلى جذور التفكير الغربي والأوروبي عن العالم الإسلامي ودوله وشعوبه، منذ مطلع نشوء الصراع بين الشرق الإسلامي والغرب الأوروبي وحملات التشويه ورسم الذهنية الغربية عن المنطقة العربية الإسلامية، السائد هو تضليل الشعوب الغربية بأن شعوب هذه المنطقة مجموعة من البدائيين والجهلة وسيئي الأخلاق ومتخلفين في إدارة شؤونهم وذاتهم وأمورهم، واستقر الرمز الإعلامي في السينما والتلفزيون والمسلسلات على صورة العربي الهمجي المتخلف والمنغلق، وأن وسيلته الوحيدة في التنقل هي “الجمل الغبي”، وأن سكناه “الخيام السوداء”، وتم تنميط العربي المسلم على أنه “صندوق بارود” أو “إرهابي”، وأن العالم لم يسلم من شرور إرهابه، ومع مرور الوقت ومع الانفتاح العولمي ورفض المنطقة العربية لشعارات المثلية والتحرير، أصبح تنميط رسم الصورة الذهنية الإعلامية الغربية عن شعوب المنطقة شعوباً تهضم حقوق الإنسان، وتطغى بنفطها على بيئة العالم.
وأضاف الراشد: لكن استضافة قطر لكأس العالم قلبت كل هذه الصورة الذهنية التي رُسمت عبر عقود من الزمن.
بطولة كأس العالم هذا العام وضعت المنظومة القيمية الغربية على المحك وأبرزت عمق روح التضامن العربي الإسلامي
مسلمو أوروبا والشعور بالغبن
من جانب آخر، تعتبر بطولة كأس العالم مقياساً لحقيقة التعايش بين الأقليات المسلمة المتواجدة في الغرب ومجتمعاتها، ويحصل أن تجمع بعض المباريات بين فريق أوروبي وآخر عربي أو أفريقي له أنصاره من الجاليات المقيمة في الغرب، ومن بين الأمثلة البارزة مباراة المغرب وبلجيكا، ومباراة تونس وفرنسا، وما يصحبها أو يعقبها من تفاعل بين جمهورين تتخلله أحياناً مظاهر من العنف بين الطرفين.
ولئن كان البعض يُرجع ذلك إلى خلل على المستوى التربوي لدى بعض أبناء المسلمين في الديار الغربية، ويحمّل المسؤولية إلى الأولياء، فإن الأمر أعمق من ذلك، إذ المتعارف عليه أن الجمهور المشجع لفريقه يريد أن يعبر عن فرحته بانتصار فريقه، وتحصل أحياناً أعمال شغب وعنف من طرف أقلية.
وبدل محاصرة مثيري الشغب وكذلك العناصر المستفزة، تستعمل الشرطة القوة المفرطة ضد المشجعين الذين يعبرون عن فرحتهم بطريقة سلمية، وهو ما يزيد الشعور بالغبن لدى شريحة من مسلمي أوروبا جراء سياسة الكيل بمكيالين وسياسة التضييق عليهم، خاصة عندما يتعلق الأمر بحرية التعبير عن مشاعرهم وحقوقهم وآرائهم، وهي سياسة ممنهجة في بعض البلاد وتأخذ أشكالاً متعددة من التضييق على الأفراد، وخاصة المحجبات، وكذلك المساجد والمؤسسات التعليمية الخاصة، إلى التضييق عليهم في الارتقاء إلى المناصب العليا في الإدارة والدولة، في حين يتم تكريم من يرون فيه خدمة لمصالحهم مثل كبار اللاعبين في الفرق الوطنية من أمثال زين الدين زيدان، أو كريم بنزيما.
في هذا السياق، يُفهم اتهامُ رئيسِ الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) جياني إنفانتينو الغربَ بـ”النفاق” عشية انطلاق بطولة كأس العالم رداً على انتهاكات لحقوق الإنسان في قطر، وفي مؤتمر صحفي في الدوحة، ردّ قائلاً: “اليوم لديَّ مشاعر قوية، اليوم أشعر أني قطري، أشعر أني عربي، أشعر أني أفريقي، أشعر أني معوق، أشعر أني عامل مهاجر”.
وأضاف: “لقد تعلمنا العديد من الدروس من الأوروبيين والعالم الغربي، أنا أوروبي، وبسبب ما كنا نفعله منذ 3000 عام حول العالم، يجب أن نعتذر لنحو 3000 سنة قادمة قبل إعطاء دروس أخلاقية”.
المونديال مقياس لحقيقة التعايش بين الأقليات المسلمة في الغرب ومجتمعاتها
الأبعاد الحضارية لبطولة كأس العالم
ويرى د. سعد الكبيسي، في مقال له في مجلة “المجتمع”، بأن بطولة كأس العالم هذه السنة تحمل دلالات فكرية وسياسية بين الغرب والشرق، وبين الفضيلة والرذيلة، وليس مجرد كرة قدم فقط، ولذا فهي فرصة ذهبية لتوعية المتابعين بهذه التعقيدات والدلالات التي رافقت هذه الدورة من المونديال.
وباعتبار أن بطولة عالمية بهذا الوزن تشد اهتمام الشعوب والأمم على مستوى المعمورة، فإن أبعادها الحضارية ستكون بعيدة المدى، ليس بين الشرق والغرب فحسب، وإنما أيضاً بين العرب والمسلمين أنفسهم على مستوى الشعوب أساساً بالرغم من التقلبات السياسية، حيث رسخت بطولة كأس العالم في قطر روح التضامن العربي الإسلامي من خلال مساندة الفرق العربية المشاركة في هذه البطولة (قطر، السعودية، المغرب، تونس)، وعمقت مركزية القضية الفلسطينية والهوية الإسلامية، علاوة على النجاح الباهر لدولة قطر في تنظيم هذه البطولة وحسن استثمارها دعوياً وحضارياً، كل ذلك يعطي دفعاً كبيراً للشعوب العربية والإسلامية في استرجاع الثقة في الذات والأمل في غد أفضل.