في الوقت الذي تتسع فيها دائرة المقاطعة الثقافية والأكاديمية للاحتلال الصهيوني في الأوساط الأكاديمية والثقافية والفنية الغربية، رصد خلال السنوات الأخيرة نمو -وإن كان محدوداً-لظاهرة تطبيع ثقافي في أوساط أكاديمية ثقافية عربية، وهي ظاهرة غير معزولة عن التطبيع السياسي التي نشطت به بعض الدول العربية والخليجية في الآونة الأخيرة، حيث تهدف الدول الراعية للتطبيع من إقحام الثقافة والفن في مسارها التطبيعي من إضفاء رسالة «أنسنة» لسلوكها الخياني للقضية الفلسطينية والقضايا العربية، وهي في ذلك تتساوق مع الاحتلال الصهيوني في محاولة يائسة لتجميل صورته الملطخة بدماء الشعب الفلسطيني، والولوج للشعب ونخبها الثقافية عبر واحدة من أخطر مداخل التأثير والتأطير الفكري والحضاري.
يدرك الاحتلال الصهيوني أن تطبيعه مع الأنظمة والحكومات لا يكفي لشرعنة وجوده ومنحه شهادة البقاء في المنطقة؛ لذا يسعى عبر ذلك للانتقال لمرحلة متقدمة يستطيع فيها التأثير على قناعات ومواقف الشعوب ونخبها المختلفة، وهو في سبيل ذلك يبذل جهوداً لتعزيز التطبيع الثقافي والفني والرياضي والعلمي عبر المشاركة في المعارضة القافية والفنية المشتركة والفعاليات الرياضية خاصة المقامة في الدول العربية والإسلامية، وتكوين الجمعيات العلمية ومراكز الأبحاث المشتركة في قضايا البيئة والمناخ وعبر المشاركة في المؤتمرات الأكاديمية في الجامعات والمعاهد العربية، وتنظيم المخيمات الشبابية المشتركة المدعومة من دول التطبيع.
ومن أبرز «بؤر» الترويج للتطبيع الثقافي والاكاديمي: معهد دراسات السلام في الشرق الأوسط (PRIME)، مركز «إسرائيل» فلسطين للأبحاث والمعلومات (IPCRI)، منظمة «أصدقاء الأرض» Friends of the Earth Middle East (FoEME)، والسكرتارية الفلسطينية/«الإسرائيلية» للبيئة Palestinian-Israeli Environmental Secretariat (PIES).
ويظهر جلياً الاهتمام المتزايد للاحتلال الصهيوني ومؤسساته بمخاطبة الجمهور العربي بلغته من خلال إنشاء منصات ناطقة بالعربية على منصات التواصل الاجتماعي، وتصدير ناطقين عسكريين باللغة العربية، كما يرعى الاحتلال الصهيوني مجموعة من القنوات الفضائية كقنوات «مكان» و«i24» ورعاية مسلسلات وأفلام موجهة للجمهور العربي على منصات الترفيه العالمية.
وتجدر الإشارة هنا إلى خطورة ما تقوم به قنوات عربية رئيسة من استضافة لناطقين ومتحدثين باسم الاحتلال لتمرير رسائلهم للعالم العربي، حتى بات مستساغاً حضورهم ومشاركتهم في سياق البث العربي.
مضامين الخطاب التطبيعي
كما طالعتنا قنوات وشركات إنتاج عربية بأعمال فنية عربية مع الأسف تقحم بها «الشخصية اليهودية» بما يروج لحضورها وروايتها في محاولة بائسة لجعل الوجود اليهودي الصهيوني في فلسطين والدول العربية جزءًا من الهوية الشاملة والاعتراف بالرواية الصهيونية والترويج للاحتلال كونه مصدراً للعلوم والتكنولوجيا وواحة للحريات والفكر اللبرالي، هذه هي أبرز مضامين الخطاب التطبيعي، حيث صممت معظم هذه الأعمال بعناية واختيرت الأفكار والألفاظ بدقة وهي إنتاج «مختبرات حرف الوعي» الصهيونية التي امتطت ظهر المطبعين من المثقفين والفنانين وداعميهم من شركات إنتاج عربية وعالمية متواطئة مع الاحتلال ومشروعه الاستعماري، ولم يتوقف الأمر على هذا النحو، بل هناك مسعى متزامن لتشويه صورة الفلسطيني والنيل من روايته التاريخية في ملكيته لأرضه وحصرية هوية المقدسات في فلسطين الإسلامية وخاصة في القدس، كما تهدف لتصدير مفهوم «المساواة» بين طرفي الصراع؛ بين الضحية والمجرم، كونهما طرفي نزاع لا يمكن نهايته إلا بالتعايش السلمي بينهما والوصول لقواسم مشتركة والقبول بوجود المعتدي وتنازل الضحية عن حقها في العودة والتحرير.
يلجأ المطبعون من النخب الثقافية والفنية والأكاديمية لتبرير فعلتهم باستخدام أطر مفاهيمية على غرار الانفتاح على الآخر، وفهم المجتمع الصهيوني من داخله، وتصدير الرواية العربية للجمهور الصهيوني مباشرة، وهي مبررات واهية لا تصمد أمام حقيقة المنتج النهائي لعملية التطبيع الثقافي والفني التي تصب في نهاية المطاف في مصلحة الاحتلال الصهيوني وروايته وكسر العزلة المفروضة شعبية عليه، كما تتهاوى هذه المبررات في مقارنتها في بشاعة النموذج الصهيوني شديد الوضوح في عدوانه وجرائمه ومواقفه العدائية تجاه العرب والمسلمين، وفي نظرة لمعظم محاولات التطبيع الفني والثقافي نجد أنها تتم برعاية أنظمة ومجموعات لا تؤمن بالحوار والانفتاح على الآخر في الأوساط العربية نفسها، بل تنتمي للاستبداد السياسي والفكري والثقافي وتحميه.
يتصف المطبعون من النخب الثقافية والفنية والأكاديمية بأنانية وأحادية في النظر لقضية التطبيع فهم يتجاوزون عن قصد الوعي العربي الشعبي الرافض للتطبيع وفي ذلك نظرة استعلائية على الجمهور العربي وموقفه من الاحتلال الصهيوني، فدوافع المال والشهر وإثارة الجدل والالتصاق بشركات الإنتاج العالمية والمنتديات الثقافية والمؤتمرات العالمية النخبوية والبقاء تحت أضواء الشهرة، وهو ما يدرك الاحتلال ورعاة التطبيع مسبقاً عن هذا النوع من المطبعين الساعين لتبرير فعلتهم بشعرات معزولة عن واقع التطبيع الخادم لمصالح الاحتلال، بينما يهدف الأخير لتعزيز الاعتراف بوجوده وروايته.
ومن التبريرات الممجوجة المستخدمة في تغطية التطبيع الثقافي والأكاديمي، السعي للتأثير على نخب العدو و«المنفتحين» فيه لدفعهم لقبول الرواية العربية والفلسطينية، وهو رهان يشبه إلى حد كبير رهانات السياسيين من «كامب ديفيد» إلى اتفاقات «أبراهام» مروراً بـ«وادي عربة» و«أوسلو».
لقد فشل الرهان على طرف يرى العدو أنه يمكن أن يقبل بالحقوق الفلسطينية والعربية أو حتى جزء منها، فبعد ثلاثين عاماً من اتفاق أوسلو الذي وقعته منظمة التحرير الفلسطينية نجد أن الاحتلال قد ازداد استيطانه وإجرامه وقتله وتهويده للقدس، وبعد معاهدات السلام العربية زاد الاحتلال من عبثه باستقرار الدول العربية ومصالحها وأمنها الحيوي والمائي والغذائي والإستراتيجي، فهو يدعم كل انفصال في الدول العربية ويدعم كل اعتداء على ماء العرب ويعزز كل خلاف عربي عربي، فما يسمى بالنخب الصهيونية الليبرالية واليسارية باتت اليوم معزولة أكثر داخل المجتمع الصهيوني ونخبته الحاكمة المائل اطراداً نحو اليمينية والتطرف القومي والديني، عوضاً على كون هذه النخب ونظراً لانتماء الصارم بالصهيونية لم تختلف في سياساتها عن اليمين الصهيوني حين شكلت لعقود نخبة الاحتلال الحاكمة وهي ذات النخب التي تسعى عبر التطبيع الثقافي والأكاديمي لتمرير الرواية الصهيونية أينما تمكنت من ذلك.
مواثيق تجرم التطبيع
يمثل كل ما سبق، ورغم خطورته وضرورة عدم التساهل معه، استثناءً في الوسط الثقافي والفني والأكاديمي العربي الرافض عموماً للتطبيع، فجهود مقاومة التطبيع الثقافي تنتمي لدافع ذاتي ونفسي ووعي عميق مقاوم للرواية الصهيونية، وعبر عقود الصراع مع الصهيونية بذلت جهود في أوساط المثقفين العرب لبناء جدار مقاومة التطبيع، ويشير الباحث والمؤرخ الفلسطيني د. أسامة الأشقر لذلك بالجهود الموثقة لاعتماد مواثيق عربية تجرم التطبيع ويضيف: صدرت عدة مواثيق تجاه مناهضة التطبيع ومكافحته صادرة عن تجمعات ومؤسسات ثقافية كبيرة، من أهمها:
مؤتمر للمثقفين المصريين في مؤتمر عقدوه في أبريل 1978 بعد أيام من توقيع المعاهدة المصرية الصهيونية (وتمخض عنه تشكيل لجنة الدفاع عن الثقافة القومية)، الذي اعتمد مبدأ رفض التطبيع رداً من المثقفين المصريين على قرار يزوِّر إرادتهم ويهدد أمن بلادهم.
ميثاق للمثقفين العرب: برنامج عمل لمقاومة التطبيع، تم اعتماده في اجتماع الاتحاد العام للكتاب والأدباء العرب في عمّان في ديسمبر 1992م.
يضاف إليه الجهود التي تبذلها حركة المقاطعة العالمية (BDS) في المجتمعات العربية والعالمية، والحملات المحلية والقطرية في الدول العربية، كالحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لـ«إسرائيل» (PACBI)، وهي قائمة طويلة وممتدة في كل الدول العربية والإسلامية، فكانت خلاصة هذه الجهود أن التطبيع الثقافي والأكاديمي ما زال منكراً ومداناً ومحاصراً، وأن النخب المطبعة معزولة ولا يحظى فعلها برواج.
كما أن حملات المقاطعة العربية والدولية حققت إنجازاً كبيراً في إشاعة ثقافة المقاطعة الأكاديمية والرياضية والثقافية التي تظهر نماذجها باستمرار وهي أكبر من أن تحصى، ومع الانفتاح الكبير الذي فرضته وسائل التواصل المجتمعي وتطبيقات الاتصال والترفيه، لا بد من مواكبة جهود مقاومة التطبيع لهذا التحول باجتراح وسائل مقاطعة تنتمي للإعلام الرقمي ووسائل التواصل كحظر التواصل ومقاطعة الإعجاب بصفحات العدو ومنصاته وعدم الظهور عليها أو التفاعل معها والإشارة إليها ولدورها في تمرير الرواية الصهيونية، فإذا كان الاحتلال والمطبعون معه قد عجزوا عن الترويج لأفلام ومسلسلات التطبيع عبر التلفاز واختبؤوا في مؤتمرات التطبيع الثقافية والعلمية، فيجب محاصرة فعلهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي ومنع تحولها لبديل نظراً لسهولة الوصول والقدرة على تصميم المحتوى الجاذب وإخفاء رسائل ضمنية عبره.
إن محاولات الاحتلال الصهيوني لاختراق الوعي العربي ونخبه الثقافية والأكاديمية مستمرة وتحظى بدعم أنظمة التطبيع، وهي في سياق بحث الاحتلال عن شرعية مفقودة وقبول بعيد المنال داخل المجتمعات العربية، والحقيقة أن جهود مقاومة التطبيع تنمو وتحقق مكتسبات يوماً بعد يوم، حتى باتت حركات المقاطعة للاحتلال تشكل هاجساً يصفه قادة الاحتلال بالتهديد الأمني.