الحمد لله وصلى الله وسلم على سيدنا رسول الله محمد وعلى آله وصحبه وسلم وبعد:
فقد انقضى رمضان سريعا وانقلب عائدا إلى منزله في فلك الدهر منتظرا أمر الله تعالى في عودة مقبلة ليزورنا مجددا في عام مقبل إن شاء الله تعالى، وقد مر الشهر على العباد وحالهم معه حال النفر الثلاث الذين دخلوا مجلس رسول الله ﷺ فعند البخاري ومسلم عنْ أَبِي وَاقِدٍ اللَّيْثِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ بَيْنَمَا هُوَ جَالِسٌ فِي المَسْجِدِ وَالنَّاسُ مَعَهُ إِذْ أَقْبَلَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ، فَأَقْبَلَ اثْنَانِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ وَذَهَبَ وَاحِدٌ، قَالَ: فَوَقَفَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ، فَأَمَّا أَحَدُهُمَا: فَرَأَى فُرْجَةً فِي الحَلْقَةِ فَجَلَسَ فِيهَا، وَأَمَّا الآخَرُ: فَجَلَسَ خَلْفَهُمْ، وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَأَدْبَرَ ذَاهِبًا، فَلَمَّا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قَالَ: «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ عَنِ النَّفَرِ الثَّلاَثَةِ؟ أَمَّا أَحَدُهُمْ فَأَوَى إِلَى اللَّهِ فَآوَاهُ اللَّهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَاسْتَحْيَا، فَاسْتَحْيَا اللَّهُ مِنْهُ، وَأَمَّا الآخَرُ فَأَعْرَضَ، فَأَعْرَضَ اللَّهُ عَنْهُ».
نعم قد كنا منقسمين بين الأحوال الثلاثة: مقبل مسرع يأوي إلى ربه، ومستحي يجر الخطى على طرف النجاة، ومعرض لم يعبأ برمضان ولم يغيره أو يتغير معه، ومع هذا فقد تزين العامل والعمل بتوجيه نبوي مهم يتعلق بصيام ستة أيام من شهر شوال بعد صيام رمضان فعند مسلم عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ حَدَّثَهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ» وهي في حقيقتها تحمل مقاصدا وأسسا لتربية العامل وتجويد العمل أجليها في النقاط التالية:
أولا: حكمة كونها ستة أيام: قد انبرى العلماء في بيان الحكمة من صيام ستة أيام من شهر شوال وأغلبهم على أنها على حساب الحسنة بعشر أمثالها، قال النووي في توضيح ذلك: قَالَ الْعُلَمَاءُ: “وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ لِأَنَّ الْحَسَنَةَ بِعَشْرِ أَمْثَالِهَا فَرَمَضَانُ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ وَالسِّتَّةُ بِشَهْرَيْنِ، كَمَا بَيَّنَهُ خَبَرُ النَّسَائِيِّ بِسَنَدٍ حَسَنٍ: «صِيَامُ شَهْرِ رَمَضَانَ بِعَشَرَةِ أَشْهُرٍ، وَصِيَامُ سِتَّةِ أَيَّامٍ بِشَهْرَيْنِ فَذَلِكَ صِيَامُ السَّنَةِ».
غير أنه قد يفهم منه أن العدد مقصود في ذاته بحكم أخرى اجتهادا: كبقاء فترة على الأجواء الرمضانية لا يتحقق المعايشة بأقل من هذا العدد، وربما هي الفترة التي تدفع بالمسلم إلى الاستمرارية وتثبيت العمل وخاصة في الصيام فينتقل إلى استساغته والبقاء عليه، وربما كانت أيضا فترة تيأس الشيطان معها الظفر السريع بالعودة بالمسلم إلى سابق عهده وغفلته، وربما كانت بمثابة التأكيد على قوة المسلم في أداء التكليف ودفعا لما يقال حول فريضة الصيام من شدة وصعوبة، وربما كانت مزية أرادها الشارع الحكيم لشهر شوال كما ميزت شهور العام بخصائص ومناسبات وأيام فشرفت بها ولعل حكمة العدد في حد ذاته ينطلق إليها العقل تفكيرا، والقلب معايشة، والنظر تدبرا للخروج بغير ذلك من دلالات الحكمة النبوية في تحديدها.
ثانيا: أهمية وجود النافلة البعدية من جنس الفريضة: نعم قد جعل الله لكل فريضة نافلة من جنسها تبين أهمية الاتيان بها من حسن التعبد لله عز وجل، والاقتداء العملي بالنبي ﷺ ، وتأكيد الرضا بالتكليف الإسلامي، وبيان سهولة أداءه، وجبرا لنقائص وخلل في الفرض أو عدم تمامه، فجعل نافلة الصلاة من جنسها، وجعل نافلة الحج عمرة من جنسها وجعل نافلة الزكاة من جنسها وكذا الصوم فله نافلة من جنسه وهي تلك الأيام الست التي تؤكد ما سبق من مقاصد وتجبر كسرا أو تكمل نقصا طرأ على الفريضة يجعله في دائرة الأمان وبه يتجاوز الامتحان وهذا ما أكده حديث رواه أحمد عَنْ يَحْيَى بْنِ يَعْمَرَ، عَنْ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ : ” أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ صَلَاتُهُ، فَإِنْ كَانَ أَتَمَّهَا كُتِبَتْ لَهُ تَامَّةً، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَتَمَّهَا قَالَ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ: انْظُرُوا هَلْ تَجِدُونَ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَتُكْمِلُوا بِهَا فَرِيضَتَهُ؟ ثُمَّ الزَّكَاةُ كَذَلِكَ، ثُمَّ تُؤْخَذُ الْأَعْمَالُ عَلَى حَسَبِ ذَلِكَ ” ففي قوله ﷺ ثم تؤخذ الأعمال على حسب ذلك يساير أهمية وجود نافلة لرمضان يستكمل بها الفريضة للإتمام وهي تلك الستة من شوال.
ثالثا: علامة على القبول: فإنه في أدبيات العمل الصالح وتأكيد قبوله وتحقق مقصوده أن يدفعك ويوفقك إلى عمل صالح بعده كما قال الحسَن البصرى: “إنَّ مِن جزاءِ الحسَنةِ الحسَنة بَعْدَها، ومِن عقوبةِ السيئةِ السيئةُ بعدها، فإذا قبل اللهُ العبدَ فإنه يُوفِّقه إلى الطاعة، ويَصْرفه عن المعصية” فكأن النبي ﷺ يرسم لك بتوجيهه وسنته ما تستدل به على درجة القبول وعلامة الوصول بصيام ستة أيام من شوال ليطمئن قلبك على موقعه وعملك على موطنه في رمضان المنصرم.
رابعا: تسرية لمن لا يستطيع الصيام: أرى في هذه السنة تسرية لمن لا يطيق سنة الصيام بشكل عام على مدار العام لخوار جسمه وآفة صحته، وطبيعة عمله فيأتي التوجيه النبوي لمن كان معذورا بقلة الصوم لتحمله هذه الأيام الست مع رمضان كمن صام صيام الدهر طول العام تسرية له وإلحاقا بالصائمين المقتدرين على الصوم من بداية العهدة الداودية إلى من يصوم معهودا نبويا، تماما كمن لا يستطيع قراءة القرآن لعذر وأمية فيزف له بشرى قراءة الصمد لتعدل ثلث القرآن فعند البخاري ومسلم عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ، أَنَّ رَجُلًا سَمِعَ رَجُلًا يَقْرَأُ: قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ يُرَدِّدُهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ جَاءَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، وَكَأَنَّ الرَّجُلَ يَتَقَالُّهَا، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا لَتَعْدِلُ ثُلُثَ القُرْآنِ» وهذا بطبيعة الحال لا يعني ترك القراءة بالكلية كما لا يعني ترك الصيام لمن قدر عليه فإنه لا عدل له غير أنه الثاني من باب اللحاق بالفضل وليس من باب السباق بالأصل والأجور متفاوتة، وعليه لو صح هذا المقصد لكانت الستة أيام في حق من لا يطيق الصوم أولى ممن يطيق، فتدبر.
خامسا: تحقيق سنة التدافع: وأعني هنا دفع النفس عن الفتور والملل بعد النشاط والعمل تأكيدا لقوله تعالى: (فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ)[الشَّرْح: 7-8] ولأن النفس البشرية لو رضيت بأدائها وتيقنت – عجبا – بقبولها لدفعت عن نفسها استمرارية العمل وديمومة النشاط فتأتي الأيام الستة لتحقق سنة التدافع لكل فكرة وراحة طويلة الأمد بعيدة العود لما اثبتته من نفسها في مضمار سباقها في العمل الصالح فرسا جموحا بين أقرانها، فتستمر ولا تنزوي وتعمل ولا تكل لبقاء سلامتها واستمرار ثمرتها.
وأخيراً، فإن صيام الستة أيام من شوال تربية للعامل وتحقيق لفقيهات في تكوينه أجليها مختصرة:
– ففيها تربيته على محبة التكليف لا الرضا به وشتان بين الاثنان في المعايشة والموالاة.
– وفيها أهمية البقاء في الأجواء الإيمانية قدر المستطاع، بل خلق جوا بأيدينا يقارب أجواء رمضان وصيامه أيامه.
– وفيها أهمية ثقل التربية الإيمانية بالتنقل بين الفريضة والنافلة فريضة تفرض عليك ونافلة تقدمها أنت فتحقق محبة الله بما افترضته عليك وتستكمل درجات المحبة بما به تنفلت كما قال في الحديث القدسي: “وما زال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه”.
– أهمية المتابعات في الأعمال الصالحات في طرد الشياطين ومعالجة النفس وتقوية الدين وكم جاء هذ الفقه في كثير من التوجيهات النبوية لإزالة الشوائب وتقوية العود وثقل العهود مع الله فعند أحمد عَنْ عَبْدِ اللهِ بن مسعود، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “تَابِعُوا بَيْنَ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ، فَإِنَّهُمَا يَنْفِيَانِ الْفَقْرَ وَالذُّنُوبَ، كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ”.
– في صيامها أيضا بيان لجلد الإنسان وقوته في استبقاء طول نفسه في عبادة ربه وبذل ما يمكن تحصيله بقوة ونشاط في مرضاته عز وجل.
– فيها نقل الإنسان وتربيته من العبادات المقيدة زمانيا كما في رمضان إلى العبادات المطلقة زمانيا من نفس جنسها كما في شوال في صيام ستة أيام منه بحرية الاختيار لمن قال بجواز تفرقها، وهو دليل على أنه يستطيع التعبد والأداء تحت كل التوجيهات والأوامر سواء كانت مقيدة بوقت أو مطلقة.
– فيه أيضا الانتقال من الفرض الإلهي ممثلا في ركن الصيام في رمضان إلى التوجيه النبوية ممثلا في صيام ستة أيام من شوال وهو انتقال مطلوب في كل الأعمال والأركان كما أنه ربط لمنهجي الأمة بما فرض في كتاب ربنا عز وجلوما سن في سنة نبينا ﷺ – وقد يؤخذ منه لمن لم ير عدم صيام هذه الأيام إلا لمن قضى ما عليه من رمضان سرعة المبادرة لقضاء الشهر والتحفيز لعدم التهاون في القضاء فيكون من باب الفراغ من الواجبات بسرعة وأداء دين الله على الفورية ليلحق بعدها بقية الفضل في صيام الست.