مما لا يخطئه الدارس لحركة الإخوان المسلمين أنها منذ بداية انطلاقها تحرص كل الحرص على التقريب بين المتباعدين، وعلى التجميع بين المتفرقين، وعلى التوفيق بين المتخاصمين في إطار العاملين للإسلام من الجماعات الأفراد والمؤسسات، وأعلن الأستاذ البنا من قديم أن دعوته تبني ولا تهدم، وتجمع ولا تفرّق، وهذا ما جعل الإخوان منذ نشأتهم يهتمون بأمور أربعة ضرورية:
الأول: الاعتدال في النظر إلى الأمور، وتبني الوسطية المتوازنة في الحكم على الأشياء والمواقف، والأشخاص والهيئات والأعمال، دون غلو ولا تقصير.
الثاني: وهو ثمرة للموقف الأول، التسامح في معاملة المخالفين، أو التعامل “مع الآخر” كما يعبرون اليوم، ونجد الإمام الشهيد هنا قد تبنى قاعدة “المنار الذهبية” التي وضعها العلاَّمة المجدد محمد رشيد رضا رحمه الله، وهي التي تقول: “نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضاً فيما اختلفنا فيه”، وقد ظن كثير من الإخوان أن هذه العبارة من كلام الأستاذ البنا لإيرادها في بعض رسائله، وقد كان يتعامل مع الآخرين بالفعل على أساسها.
الثالث: الرفق في التعامل مع المخالفين، فإن الله يحب الرفق في الأمر كله، وما دخل الرفق في شيء إلا زانه، ولا نزع من شيء إلا شانه، وأولى الناس بالرفق هم رجال الدعوة، الذين ينبغي أن تتسع صدورهم للجميع، ولا يضيقوا ذرعاً بأحد، وإن بلغ في خصومته ما بلغ.
الرابع: تبني المنهج النبوي في التيسير لا التعسير، والتبشير لا التنفير، كما أوصى الرسول الكريم أبا موسى الأشعري، ومعاذ بن جبل، حين أرسلهما إلى اليمن، فقال: “يسِّرا ولا تعسِّرا، وبشِّرا ولا تنفِّرا، وتطاوعا؛ أي ولا تختلفا”، وروى عنه أنس قوله: “يسِّروا ولا تعسِّروا، وبشِّروا ولا تنفِّروا”.
“الأصول العشرون” واتجاهها إلى التجميع
وفي ضوء هذا المعنى الكبير، كتب حسن البنا “أصوله العشرين” الشهيرة، في “رسالة التعاليم” التي جعلها أساساً لوحدة الفهم بين الإخوان المجاهدين الصادقين من جماعة الإخوان المسلمين، وهي الأصول التي عنى الكثيرون بشرحها والتعليق عليها ما بين مختصر ومطول، لقد خاطب البنا بهذه الأصول صنفين من الناس:
الأول: يتحدد في الإخوان العاملين أو المجاهدين من جماعة الإخوان المسلمين.
فمن المعلوم أن “الإخوان” هيئة عامة، ضمت في صفوفها ألواناً مختلفة من الناس، منهم المتمسك بمذهبه، ومنهم من لا يرى التمذهب، منهم المحافظ الميال إلى القديم، ومنهم المتحرر الميال إلى الجديد، منهم المثقف بالثقافة الشرعية، ومنهم المثقف بالثقافة المدنية.. إلخ، وهذه الأمزجة والاتجاهات المختلفة تحتاج إلى “قواسم مشتركة” في الفكر، تجمع بينها، على اختلاف نزعاتها، وتوحد مفاهيمها الأساسية في القضايا الكلية، والمسائل الدينية الكبرى، وإن بقي الاختلاف في الفرعيات والتفصيلات التي يتعذر أن يتفق الناس عليها.
الثاني: يتمثل في الجماعات والفئات الدينية المختلفة، التي كانت تضمها الساحة المصرية يوم كتب الإمام هذه الأصول، وهي شبيهة إلى حد كبير بما نحن عليه اليوم.
ولما كان الرجل مشغول الفكر والقلب بتوحيد الأمة المسلمة، التي فرقتها الخلافات من كل جانب، حتى قاتل بعضها بعضاً في أيام الحرب العالمية الأولى، وقد سقطت آخر راية الخلافة عام 1924م، وبرزت النزعات القومية والوطنية، بديلاً للوحدة الإسلامية، والقومية الإسلامية، لهذا كان من المهم –بل من الضروري– توحيد الجبهة الداخلية الإسلامية بكل وسيلة ممكنة؛ جبهة الداعين إلى الإسلام، والرافعين لشعاراته المتنوعة، والعمل على تضييق دائرة الخلافات الدينية والفكرية بينهم، وجمعهم على الحد الأدنى من الأصول والمفاهيم الإسلامية التي توحد ولا تفرّق، وتقرّب ولا تباعد، وحين أنشئ اتحاد للجماعات الدينية في مصر، تقدم الشهيد بهذه الأصول المركّزة، لتكون محوراً تلتقي عليه هذه الجماعات المختلفة.
من مزايا هذه الأصول
ومن هنا نلاحظ في هذه الأصول عدة أمور:
أولاً: أنها تتجه غالباً إلى المسائل التي تختلف فيها وجهات النظر بين المدارس الدينية قديماً وحديثاً، كالخلاف بين السلف والخلف من المتكلمين، والخلاف بين الاتجاه الصوفي والاتجاه السلفي، والخلاف بين أنصار التقليد المذهبي و”اللامذهبيين”.
ثانياً: إنها مصوغة بحكمة واعتدال؛ لأنها تتجه إلى التجميع والتوفيق، لا إلى الإثارة والتفريق، بين أتباع هذه المدارس، إذا توافر القدر الضروري من الفهم والإخلاص والتسامح.
ثالثاً: أنه قصد فيها إلى التركيز والإيجاز، لا إلى الشرح والتفصيل؛ لأن التوسع والتفصيل في هذه الأمور يتيح فرصة أكبر للخلاف، وتعدد الآراء وتضاربها، وهو عكس المقصود.
رابعاً: أنها لم تعن كثيراً بالتوجه إلى العلمانيين والمثقفين ثقافة غربية، ولو كان ذلك من قصدها واهتمامها لأضافت إلى هذه الأصول أصولاً أخرى.
ولهذا حين أردت أن أقدم معالم الإسلام لهؤلاء في كتابي “الإسلام والعلمانية وجهاً لوجه” ذكرت عشرين أصلاً أخرى، ذات مضمون آخر، ووجهة أخرى، وأعتقد أنه لو كان الإمام الشهيد مكاني لفعل مثل ما فعلت، ولكل مقام مقال.
اتجاه التجميع والتوفيق: ولا ريب أن الاتجاه التوحيدي والتوفيقي في هذه الأصول واضح كل الوضوح، وحينما بدأت أكتب في شرح هذه الأصول، وعلى الأصح أنشر بعض ما كان عندي من شرحها، عندما بدأت مجلة “الدعوة” في الظهور في أوائل السبعينيات بإشراف المرشد الثالث الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله، جعلت لها عنواناً ثابتاً هو “نحو وحدة فكرية إسلامية”، ومن توفيق الله لنا أن وجدت شيخنا الغزالي، رحمه الله وأجزل مثوبته، لحظ هذا الملحظ نفسه بعد ذلك، فسمى كتابه الذي شرح فيه الأصول العشرين “دستور الوحدة الثقافية بين المسلمين”، وقد كان التكوين العقلي والنفسي لحسن البنا يتجه أبداً إلى البناء لا الهدم، وإلى الجمع لا التفريق.
وهذا هو السر في أن الإمام حسن البنا لم يحسم الرأي في بعض الأمور، وتركها لكل فريق يرى فيها رأيه، حسبما يلوح له من الأدلة.
وما لاحظه الإمام البنا منذ نحو نصف قرن –من الحاجة إلى التجميع والتوفيق– ما زلنا نلاحظه إلى اليوم.
ففي البلاد التي زرتها داخل العالم الإسلامي، وفي الجاليات والتجمعات الإسلامية التي التقيتها خارج العالم الإسلامي، في المؤتمرات والندوات التي شاركت فيها في أقطار شتى في المشرق والمغرب، كان هناك سؤال مشترك يتكرر، هذا السؤال يقول: لماذا يظل الخلاف قائماً ين الجماعات الإسلامية؟ ولم لا تتوحد كلها في جماعة أو حركة إسلامية عالمية كبرى، بدل هذه الجماعات المتفرقة المتناثرة؟! إن الاتحاد يقوي القلة، والاختلاف يضعف الكثرة، فلماذا الاختلاف بينها؟ أليست كلها تعمل لنصرة الإسلام، وإقامة دولة الإسلام؟! أوليس الإسلام هدف الجميع، ومنطلق الجميع، فلماذا يتفرقون ولا يجتمعون؟ ولماذا يختلفون ولا يتوحدون؟ وكم تمنى دعاة مخلصون أن تقوم في عصرنا حركة إسلامية عالمية واحدة تضم كل الحركات، وتستوعب كل الطاقات، فتكون أقدر على التصدي لتكتلات القوى المعادية، ومؤامرات الصهيونية، والصليبية، والشيوعية، والوثنية، التي قد تختلف بينها وتتفق علينا، ومما لا يخفى على دارس أن هناك عقبات جمة تقف في سبيل هذه الوحدة المرغوبة.
فالوحدة تقتضي الاتفاق على عدة أمور:
1- تتفق أولاً على الأهداف وعلى ترتيبها.
2- ثم تتفق ثانياً على المناهج والوسائل التي تتخذ لتحقيق الأهداف المنشودة.
3- ثم تتفق ثالثاً على القيادة والثقة بإخلاصها وكفايتها، وقدرتها على استخدام تلك الوسائل لتحقيق تلك الأهداف.
وهذا ليس من اليسير أن يتوافر إلا داخل الجماعة الواحدة.
ولهذا أرى أن الحلم بالحركة التي تستوعب كل الحركات، أو الجماعة التي تضم كل الجماعات، حلم جميل، ولكنه –بمنطق الواقع– بعيد التحقيق.
واعتقادي الذي سجلته في أكثر من كتاب أنه ليس من الضروري توحيد الجماعات الإسلامية، وصبها في قالب واحد، بل يكفي التقريب بينها، وإزالة أسباب التنافر والتناكر بين بعضها وبعض، والعمل على أن يكون بينها قدر من التنسيق والتفاهم والتعاون، بحيث يكمل بعضها بعضاً، وبحيث تقف في القضايا الكبيرة جبهة واحدة كالبنيان المرصوص، وبهذا يكون اختلافها اختلاف تنوع وثراء، لا اختلاف تناقض وصراع، ومما يعين على هذا التقارب والتفاهم والتعاون ما ذكرناه من ضرورة توفير “حد أدنى” من “المفاهيم المشتركة” التي تجمع بين المتفرقين، وتقرب بين المتباعدين، وتوثق الصلة بين المتقاربين، وهذا ما يمكن أن تؤديه هذه الأصول إلى حد كبير.