إذا كان الشيخ الغزالي قد تكوَّن عقله الأصولي والشرعي في الأزهر الشريف، فإن ملكات التجديد والاجتهاد والإبداع والوعي الحضاري إنما تبلورت لديه وصقلت في مدرسة الإحياء والتجديد -المدرسة الإصلاحية الإسلامية- التي تبلورت في ثقافتنا الإسلامية في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، مدرسة الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده (1266 – 1323هـ/ 1849 – 1905م)، ورشيد رضا (1282 – 1354هـ/ 1865 – 1935م)، ثم حسن البنا (1324 – 1368هـ/ 1906 – 1949م).
وعن هذه الحقيقة؛ حقيقة النسب الفكري للشيخ الغزالي قال: «أنا تعلمت من محمد عبده، والشيخ رشيد رضا، وجمال الدين الأفغاني (1254 – 1314هـ/ 1838 – 1893م) رجلاً أقرب إلى السياسة، فكره بعيد عن ميادين الثقافة التي أكتب فيها، لم يتفرغ لهذا، وكان عقلاً كبيراً، وعقلاً غير عادي، لكن محمد عبده كان مربياً.
أمانة علمية:
كان محمد عبده ذواقة للكتاب العزيز، واستغربت وهو يتحدث: هل السفر لمجرد السفر يبيح التيمم؟ لقد قرأ 25 تفسيراً في هذا الموضوع! انظر إلى الأمانة العلمية والبحث عن الحقيقة لكي يعرف.
وقرأت له كتاب «رسالة التوحيد» وكتاب «الإسلام والنصرانية» ألفه في ليلة واحدة، لأن الحمية الدينية أشعلت في نفسه الغيرة فبدأ يكتب، وكتب الكتاب كله في جلسة، فرأيت أن محمد عبده ينظر إلى الخلافات الفكرية بين السُّنة والأشاعرة والمعتزلة من ناحية أخرى، أو بين السلف والخلف، فتعلمت منه ما لم أتعلم من غيره، ومدرسته هي التي أثرت في محمود شلتوت (1310 – 1383هـ/ 1893 – 1956م)، ومحمد المدني (1325 – 1388هـ/ 1907 – 1968م)، وعبدالوهاب خلاف (1305 – 1383هـ/ 1888 – 1956م) كل أصحاب العقول النيرة في ثقافتها المعاصرة استفادوا من محمد عبده لأنه كان أستاذاً لهم، كان أباً عقلياً لهم، ووجدته يقول ببساطة: لماذا يتعارك السُّنة والأشاعرة في إثبات الرؤية؟ فالخلاف بينهم خلاف لفظي، فالرؤية التي يثبتونها غير الرؤية التي ينكرها هؤلاء، وإلى متى يبقى الخلاف والأمة يجب أن تعرف ما لديها؟ فهذا منعطف تاريخي في الثقافة الإسلامية، منعطف تاريخي يجب أن يُعرف للرجل.
نعم، فمحمد عبده عقل كبير، وأنا رأيت أن حسن البنا كان يقرأ لمحمد عبده، ولرشيد رضا، ويقرأ لكل من كتبوا في الإسلام، وحسن البنا لديه قدرة ليست لأحد سوى أبي حامد الغزالي (450- 505هـ/ 1058 – 1111م)، أبو حامد لديه القدرة على أن يقرأ الفلسفات التي يعاني منها -كما يقول طه حسين (1306 – 1393هـ/ 1889- 1973م) في عبارات الرافعي (1297 – 1356هـ/ 1880 – 1937م)، كان يضع العبارة وهو يعاني آلام الوضع، شيء عجيب، كان أبو حامد، وحسن البنا يستطيعان قراءة أعقد الفلسفات ثم يكونان كالنحلة التي طافت بالحدائق والحقول وتضع العسل.
حسن البنا كان في درس الثلاثاء يشرح لنا نظرات في القرآن، أو في دراسات في التاريخ، يشرح لنا معميات علمية ويبسطها كأنه أستاذ يقرأ قصة للأطفال، وهذه ملكة غير عادية موجودة عند هذا الرجل، فعندما أقول: إن حسن البنا أستاذي فإنه يلزم أن أقول: إن حسن البنا استفاد من المدرسة التي سبقته، وكان معجباً بها.
وللأمانة العلمية، ينبغي أن أقول: إنني ربما لا أكون شيئاً قط لو لم أتصل بحسن البنا، الذي اتصل بمحمد عبده، ورشيد رضا، لقد كان حسن البنا امتداداً واعياً عاقلاً ذكياً لمدرسة محمد عبده، ورشيد رضا، محمد عبده كان صوفياً، لكن عقله كان جباراً متألقاً؛ ولذلك، فإننا نرى في مدرسة الرجل مدرسة كاملة، زادها اكتمالاً أن رشيد رضا كان من علماء الأصول وعلماء الرواية، فما كان ينقص عند محمد عبده وجد عند رشيد رضا، فالمدرسة اكتملت بالاثنين معاً.
جئنا بعد هذا ووجدنا أن حسن البنا -وأنا خبير به- التقيت به، وقد جعلني يوماً ما سكرتيراً دينياً له، فوجدت رجلاً كنت أنقل مكتبة له من بيته في السبتية إلى بيته في الحلمية، وائتمنني على نقل المكتبة، فوجدت كراسات بخط يده، ووجدت تعليقات له، فعرفت أنه مطلع على علومنا الأزهرية، وعلى علوم الشيخ محمد عبده، والشيخ رشيد رضا، والشيخ محمد فريد وجدي (1295 – 1373هـ/ 1878 – 1954م)، وهو صاحب موسوعات علمية هائلة، ولكن الإسلاميين -للأسف- لم يقوموا بما يجب أن يقوموا به، وكان يجب أن يُعرف قدر الرجل، لأنه صاحب موسوعات إسلامية.
معرفة واسعة:
وحسن البنا يضم إلى جانب هذه المعرفة الواسعة موهبة أُتيها من قبله أبو حامد الغزالي، فأبو حامد كان لديه موهبة جليلة أن يقرأ معقدات الفلسفة ثم يقصها عليك كأنه يقص عليك ألف ليلة وليلة، وكان حسن البنا عنده هذه القدرة في أن يقرأ كل شيء ثم يجيء للجماهير في 3 آلاف قرية مصرية، وفي المدن، ويستطيع أن يصوغ الأفكار والآراء، ويواجه الغزو الثقافي بطريقة شعبية عامة، وقد تبعه عدد كبير من المتدينين أو أصحاب الإخلاص من الطلاب والمهندسين، والكيميائيين، والفلكيين، وعدد كبير من رجال الجماعة، وكان الرجل صاحب نفس متسعة الأقطار، فوسع هؤلاء، وكان عندما يجد أسباب الاختلاف المخيفة يفصل، ولذلك فصل «شباب محمد» لأنهم شغبوا عليه في مسألة خطيرة تتصل بقضايا المرأة، فهم أناس يرون الحجاب المطلق، في حين أن الحضارة لا تسمح بهذا ولا الإسلام الصحيح كان يسمح بحبس المرأة على هذا النحو، ففصلهم، وجماعة حاولوا أن يشتبكوا مع اليهود في موضوع المصير، وهم لا يملكون شيئاً، ففصلهم، لأنه يريد أن ينشئ الجماعة حسب سياسة منظمة، ولكن التيار كان أكبر منه، أو الاستعمار العالمي كان أسرع في معرفة خطورته، فقضى عليه، فلما مات حسن البنا بدأت كل الرواسب تظهر فيمن يتبعونه وفيمن يتصلون بالنهضة الدينية.
عموماً كان أكثرهم في الإخوان أو كان قريباً منهم.
أول لقاء مع البنا:
لقد رأيت حسن البنا أول ما رأيته بمسجد «عبدالرحمن بن هرمس» في رأس التين وأنا طالب بمعهد الإسكندرية، وكنت أذهب إلى هذا المسجد القريب من مساكن المعهد بين العصر والمغرب، لأقرأ الورد القرآني في هذا المسجد، ولأصلي المغرب في جماعة، وحدث ما لم يكن في الحسبان، فإذا بي وأنا في الصف وجدت شاباً على شيء من النحافة، ملتحياً، في وجهه عنوان القبول -كما نقول نحن- وقف في المحراب، وأخذ يشرح حديث: «اتقِ الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها، وخالق الناس بخلق حسن»، وصوَّر في الحديث العلاقة بين الإنسان وربه، وبين الإنسان ونفسه، وبين الإنسان وسائر الناس، ولم يأخذ الحديث أكثر من عشر دقائق، وسألت: من هذا الرجل؟ قالوا: «حسن البنا»، ومن هذا اليوم تبعته، وإذا ذهب إلى مكان آخر تركت ما أنا فيه وذهبت إلى المكان الذي ذهب إليه.
بل إنه دُعي إلى العشاء فنظر فوجدني حوله في الصلاة وفي المكان الآخر الذي ألقى فيه المحاضرة، فاستدعاني، وتعشينا سوياً، ومن يومها تبعته، وكان ذلك في أواخر العشرينيات من عمري تقريباً.
بداية كتاباتي:
ولولا حسن البنا ما وجدت الطريق إلى الكتابة، لأني -وأنا بالكلية- أرسلت مقالاً لجريدة «الإخوان» فلم يُنشر، وأرسلت مقالاً ثانياً فلم يُنشر، حتى يئست، ولقد وجد حسن البنا أمام أ. صالح العشماوي ملفاً منفتحاً فقال: ما هذا؟ فقال له: المقالات المحفوظة، فنظر إلى المقال الأول الموجود على السطح فوجد أنه لشخص يُدعى محمد الغزالي، ولا يعرفني إلا معرفة سطحية، فقرأ المقال، وقال لي مَنْ رآه: إنه احمرّ وجهه، وغضب أشد الغضب، وقال لصالح العشماوي: أنت تقتل الإخوان بهذا الأسلوب، هذا المقال يكون في افتتاحية العدد المقبل، ثم أرسل لي خطاباً –ما زلت أحفظه- لأنه كتب فيه:
«أخي الشيخ محمد الغزالي -كنت ما أزال طالباً في الكلية- قرأت مقالك عن الإخوان والأحزاب، فطربت لعباراته الجزلة ومعانيه الدقيقة، وأدبه العف الرقيق، هكذا يجب أن تكتبوا أيها الإخوان المسلمون، اكتب وروح القدس يؤيدك، والله معك.. حسن البنا».
لقد كان حسن البنا كبير الدعاة ومجدد الإسلام في القرن العشرين([2]).
العدد (2014)، 22 رمضان 1433هـ/ 10 أغسطس 2012م.
([2]) «الشيخ محمد الغزالي.. الموقع الفكري والمعارك الفكرية»، طبعة دار السلام، القاهرة، سنة 1430هـ/ 2009م، ص 78، 80، 81، 139، 140، 18، 53، 54، 167.