تناولنا سابقاً علاقة الشيخ المجدد محمد الغزالي يرحمه الله بجماعة الإخوان المسلمين وارتباطه الشديد بمؤسسها الإمام الشيخ حسن البنا، يرحمه الله، وفي هذا العدد نستكمل عرض هذه العلاقة وشهادة الشيخ الغزالي لأعضاء جماعة الإخوان المسلمين، الذين قاتلوا الصهاينة في فلسطين، وكيف رأى علامات الشهادة حول مقابرهم في «دير البلح»، كما سنتناول الميادين الدعوية والفكرية والسياسية التي طرقها الشيخ.
وفي مدرسة الإخوان ودعوتهم امتد فكر الشيخ الغزالي إلى ما وراء الأزهر، ووراء مساجد وزارة الأوقاف، فلقد فتحت أمامه جماعة الإخوان المسلمين ميادين دعوية، وفكرية، وسياسية، ذاق حلاوتها، وأصابته محنها، وأشواك مسيرتها، ولقد تحدث الشيخ الغزالي -في محاوراته عن دعوة الإخوان- معتزاً وناقداً، لكنه أشار إلى موقعهم الفكري، وإلى روح الجهاد والفداء والاستشهاد التي امتاز بها شباب هذه الدعوة، فقال: «لقد اتجهت دعوة الإخوان إلى الجامعيين وإلى غيرهم ممن لم يتعلموا تعليماً دينياً، فكان لديهم قدر كبير من الإخلاص للإسلام، وهم يأنسون في داخلهم أنهم مندفعون لحماية دينهم من الورطة التي وقع فيها، لكن المعلومات التي لديهم ليست من الكمال ولا التنظيم، وليست دراسات أكاديمية، وإنما هي دراسات نشرية.
ومن ناحية الأصول والفروع، الرأي الذي استقر عليه الإخوان كان أعدل الآراء، فمن ناحية الأصول لا بد من احترام مذهب السلف ولا بد من تقدير مذهب الخلف.
ولقد رأيت شباب الإخوان المندفعين للجهاد في فلسطين، الذين عندما أذكرهم أشعر كأنهم أمامي الآن، لقد جاؤوني وأنا إمام في مسجد «عزبا» في العتبة يودعونني وهم ذاهبون للقتال، فعرفت أنهم فعلاً ذاهبون للقاء الله تعالى، وذهبت إلى دير البلح -حيث دُفنت جثثهم- ورأيت المكان فعلاً ناضراً كأنه حديقة غنَّاء، ونظرت إلى المقابر وحولها ورود وأزهار، وخُيِّل إليَّ أن ظاهر المكان انعكاس للباطن، وأن هناك جناناً يعيشون فيها الآن، وقلت: كانوا تلامذة لي فأصبحوا أساتذة لي، فنحن نطلب أكثر مما يطلبون، وسبقوا إليه سبقاً بعيداً.
وعرفت بين ذلك كيف ماتوا، لأنهم كانوا يحملون أسلحة بدائية -وهذا هو العجب في تعاملنا مع معاركنا الحديثة- معركة «كفار داروم» التي قتل فيها ثمانية من هؤلاء الإخوان، معركة كانت المستعمرة اليهودية جزءاً بارزاً على سطح الأرض، أما الكيان الحقيقي للمستعمرة فكان في باطن الأرض، وكانت المدافع تُدار من أزرار في الأسفل فما يُقتل يهودي، بينما يقتل من يحاول الاقتراب من المكان، وقتل هؤلاء الإخوان، وقال أحد الضباط الإنجليز: لو أنا قائد لفرقة من هؤلاء الجنود لفتحت بهم الدنيا، لأنهم قُتلوا مقبلين غير مدبرين، وقاتلوا قتالاً غريباً، فكانوا شجعاناً مقبلين على الله تعالى.
لقد تركوا أعظم الآثار في قطاع غزة، ومحيت المستعمرة اليهودية، ولم يبق لها كيان فيها يذكر..»([2]).
مدارس المساجد:
وإذا كان الشيخ الغزالي قد تعلم في جامعة الأزهر الشريف، فإنه -عندما عمل بالدعوة في وزارة الأوقاف- قد حول المساجد إلى جامعات لجمهور المسلمين، ولقد أشار إلى إنجازه المتميز في هذا الميدان فقال: «أتذكر أنني مكثت أربعة أعوام إمام مسجد، أصلي الفجر والعشاء في المسجد بالناس، وألقي الدرس بين المغرب والعشاء للناس، وعندما عُينت مفتشاً تعجبت، فعندما خرجت للقاهرة بين المغرب والعشاء شعرت كأني ريفي يدخل القاهرة حديثاً، فلم أكن أعرف هذه الأماكن في هذا الوقت، فبدأت أعرفها، واندهشت لذلك، فبين المغرب والعشاء لم أكن إلا في المسجد، كل هذا يصنع الإنسان الداعية صناعة خاصة، لأنه يجعله قريباً من الله تعالى، متمكناً بالشعائر، وحريصاً عليها، ولا يمكن أن تثبت بالدعوة إلا على وعي تام وعلاقة موطدة بالله سبحانه وتعالى.
وعندما أصبحت مسؤولاً عن المساجد، جعلت جدولاً للتدريس فيها على النحو التالي: تفسير يوم السبت، سُنة يوم الأحد، فقه يوم الإثنين، ثم دراسة للسيرة والتاريخ النبوي يوم الثلاثاء، دراسة للعقائد يوم الأربعاء، دراسة للأخلاق يوم الخميس، يوم الجمعة تكون فيه خطبة الجمعة، ولو أن الأمر بيدي ما جعلت أحداً يدرس في مدرسة أو في جامعة إلا بعد أن يكون درَّس للجماهير في مسجد من المساجد سنتين أو ثلاث سنوات كما فعل السابقون.
المسجد عندنا جامع للعبادة وجامعة ثقافية، ولقد بدأ هذا منذ أن شرع الرسول صلى الله عليه وسلم ببناء هذه الأمة فيه، لأنه ما معنى أن أصلي الفجر فأقرأ سورتين من المفصّل أو أتلو البقرة حيناً؟ إنني أدرس في قراءتي علوماً كثيرة، فالقراءة نفسها علوم كثيرة، ولذلك الصحابي الجليل عبدالله بن رواحة عندما تحدث عن هذا قال:
وفينا رسول الله يتلو كتابه
إذا انشق معروف من الفجر ساطع
أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا
به موقنات أن ما قال واقع
يبيت يجافي جنبه عن فراشه
إذا استثقلت بالمشركين المضاجع
وبنى أمة من المسجد، ولذلك انطلقت الثقافة الإسلامية من المساجد من يومها الأول، وكانت علماً وعبادة، وكانت ثقافة تعني شقين؛ السعة العلمية النظرية، وتدريب على العملية الأخلاقية والسلوكية، وهذا هو ما تطلبه الأمم لكي تنهض..»([3]).
السعي وراء المعرفة:
ولقد عاش الشيخ الغزالي عصر الفصام النكد بين التعليم الديني والتعليم المدني، فكان طالب العلم الديني ينظر بعين واحدة لا ترى إلا تراث الإسلام، وكان طالب العلم المدني ينظر بعين واحدة لا ترى إلا مناهج الغرب وعلومه.
لكن الشيخ الغزالي -بجهده الذاتي- كسر هذا الحاجز، وجمع بالقراءة الحرة بين مختلف العلوم والفنون والآداب.
فإلى جانب القراءة المتدبرة المتأملة في القرآن والسُّنة وتراث الإسلام وآداب الحضارة الإسلامية، كان نهماً في قراءة كتب العلوم الكونية -التي رآها طرقاً حديثة- إلى فهم الدين والبرهنة على عقائده، كما كان نهماً في قراءة كتب الدراسات الإنسانية والاجتماعية التي رآها السبيل إلى تنزيل أحكام الدين على الواقع المعيش، وعن هذا المنهج الذي سلكه في الثقافة والقراءة والتحصيل، قال: «إن أكثر ما اعتمدت عليه في دعوتي إلى الله تعالى التأمل الذاتي في القرآن الكريم والسُّنة المطهرة، ولا يمنع هذا من أن أضم إلى ما أستفيد من تغلغل البصيرة في كتاب الله تعالى، أن أضم إلى هذا جزءاً من القراءات الكثيرة، بدأت بها حياتي، كنت أقرأ كل شيء، الهزل والجد، وأضع هذا في مستودع في العقل الباطن، وبعد ذلك لا أدري كيف تتجيشه القراءات أو الحوادث فتخرج، وبعد هذا أوثقه من الكتب التي أعتقد أني قرأت فيها.
كنت أستغرب إذا عرفت أني كنت -في البدايات- أكره قراءة الكتب الدينية، فقد كانت الكتب التي أحب قراءتها الروايات الأجنبية المترجمة، وأحياناً ألف ليلة وليلة، وأحياناً كتب فنية مثل: الجغرافيا البشرية، وعلوم الصحة، وعلوم الفلك، قرأت كل شيء يمكن أن يقرأه إنسان، ومن هذا كله كونت سجلاً ضخماً من المعلومات اختزنت عندي.
لا بد من النظر في العلوم الحديثة، أقصد الحضارة الحديثة، ثم علوم كونية وعلوم إنسانية، العلوم الكونية علوم استقرت وبنيت عليها نتائج علمية، فإذا بدأنا ندرس الكون دراسة صحيحة، فإننا نفهم القرآن، أنا أعتبر أن القرآن كتاب لا يستطيع فهمه من حُرم من دراسة الفيزياء والكيمياء، والأحياء، والفلك، وما إلى ذلك، لأن مُنزل هذا الكتاب يبين أن العاجز في فهم العلم والكون لن يرتقي أبداً في مضمار الإيمان، وهو القائل جل شأنه: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت: 53).
إنه لا يستطيع أن يمشي في القرآن رجل بائس فقير في العلوم الكونية، لا بد أن يكون دارساً للعلوم الكونية، وأنا أدرس العلوم الكونية، وربما كان أحب إليَّ أن أدرس مسألة فلسفية، مسألة أخلاقية، وأغوص في أعماق علم النفس وعلم الاجتماع، فإن الدراسات الإسلامية تعجبني أكثر من الفقه وما إليه([4]).
ومن هذا المخزون الثقافي، الذي وعى حقائق الدين والكون والإنسانيات والاجتماعيات، أفرز الشيخ الغزالي المشروع الفكري، الذي قدمه لأمته، وعن تأليفه لهذه الكتب قال: «ما ألفت كتاباً من هذه الكتب إلا وأصابع القدر من ورائي، والله ما أدري كيف تألفت هذه الكتب، ولا أدري كيف أعنت على كتابتها، إنما أجد فجأة أن هناك معنى يجب أن يُصوّر وأن يُنشر وأن يُلفت نظر الناس إليه، وأن أبذل جهدي في إبرازه، فأجد أنني انسقت بقوة لا أدري من أين أتت لإبراز هذا العمل، ولم أكن أقرأ ما كتبت، فهو كأنه حمل على كاهلي وتخلصت منه، فلا أحب أن أعود إليه، فلا أدري ما كتبت، ولذلك أحياناً أقرأ فأستغرب هل هذا كتبته؟! وأحياناً أكتب فأعيد الموضوع أو المعنى، وقد أكرر نفسه لأنني لا أدري أنني قلته قبل هذا، وأنسى، وهذا هو بعض طباعي التي أشكو منها، ولكنها طباعي، ماذا أصنع فيها؟!
ولعل السبب في أن كتبي انتشرت بكثرة، وكانت رخيصة أول ما ظهرت، أنني كنت أفترض أنها رسالة تؤدى، وأنه من الخير أن أكتب، وكنت أقول في نفسي: علماؤنا الأولون لو كانوا يكتبون لدفعوا من جيوبهم لمن يحمل كتبهم إلى الناس، لأنهم أصحاب فكرة يريدون نشرها أو معلمون لوجه الله تعالى يريدون أن يعلموا الناس، وليست القضية قضية تجارة أن أطبع الكتاب لآخذ منه مالاً كثيراً أو قليلاً.
لقد كان العلماء يكتبون ويضمنون أن ربهم ودينهم يرزقهم من عنده، وكانت الأوقاف الخيرية هي التي أعاشتنا نحن طلاب العلم، وأعاشت هؤلاء العلماء، ولذلك حرص الاستعمار على إلغاء هذه الأوقاف، ولقد أصبحت كتبي تترجم الآن إلى الفرنسية والإنجليزية، وأنا أعطي حق النشر مجاناً لمن يريد أن ينشر في هذه البلاد»([5]).
ولم تكن مؤلفات الشيخ الغزالي ترفاً فكرياً يستريح بها العقل من هموم التفكير، وإنما كانت معارك فكرية شرسة يواجه بها الرجل أشرس التحديات التي تواجه الإسلام وأمته وحضارته، ولقد كشفت هذه المعارك الفكرية، التي جسدت كتب هذا الشيخ الجليل عن جانب من شخصيته ربما لا يعرفه الذين لم يروا في هذه الشخصية سوى الرقة والوداعة والبشاشة والهدوء، كشفت هذه المعارك الفكرية عن مقاتل صلب شديد المراس.
ولقد تحدث الرجل عن جهاده -وهو الفقير- كي يتعلم فقال: «كنتُ كشجر الصبار الذي ينبت في الصحراء، حيث تختزن أوراقه مقادير من الماء بحيث لا يموت مع اللفح ومع السعير، الذي تعيش فيه، لعل الله تعالى زودنا في أيامنا التي عشناها بشيء من القدرة والمقاومة والرضا بالواقع حتى استطعنا أن نتخرج في الأزهر».
وتحدث عن مقاومته لاتجاه ثورة يوليو إلى اليسار، فقال: «فلما وجدت أن «عبد الناصر» ومن معه يسيرون مسيرة تتجه إلى الشيوعية يقيناً؛ قررت أن أقاتل بحياتي، فألفت كتابي «الإسلام في وجه الزحف الأحمر»، وما كان ليطبع في مصر، فطبع بالكويت».
وتحدث عن معركة كتابه «كفاح دين» فقال: «لم يعجبني سير الثورة، لأني لاحظت على عجل أننا كنا نبكي طلباً للحرية، فوجدت أن مساحة الحرية التي كنا نعيش فيها أيام فاروق كانت ألف ميل وأصبحت ألف ذراع فقط أيام الثورة، يعني الحرية التي بكينا عليها ضاعت.
ووجدت أن الشعار كان دينياً، فإذا بالدين يتقلص على عجل، وجدت أن المحاكم الشرعية ألغيت، ثم التفكير في إلغاء الأزهر، ثم إلغاء الوقف الديني، ثم اضطهاد الجماعات الإسلامية، وإنزال العذاب الأليم بها، فبدأت أكتب ضد الثورة التي طالما طبَّلت لكي تقوم وبذلت الجهود واعتبرت عدواً للقصر الملكي، وهكذا الحياة، ربما يوم بكيت منه فلما سار بكيت عليه».
«وعندما كتبت كتابي «الإسلام في وجه الزحف الأحمر» قلت فيه: لقد شعرت أنني سأتعرض للموت جراء هذا الكتاب، ولكن بئس حياة تبقى ويموت الإسلام، لقد هاجمت الشيوعية مهاجمة مرة، وتكلمت عما فيها من تطبيقات سيئة، فضلاً عن الاستناد الفلسفي الذي ينكر ويحارب الألوهية، ثم كشفت في هول تقاعس أمتنا الإسلامية وسكوتها عن سقوط الجناح الشرقي للعالم الإسلامي كله».
«كنت أول موظف يدخل وزارة الأوقاف، فأشغل نفسي بنصف ساعة في قراءة القرآن، وأشتغل بالتأليف في الوقت نفسه.
وحدث -وأنا مراقب للشؤون الدينية- أن ألفت كتاب «كفاح دين»، هذا الكتاب ذكرت فيه أن الطيار عبداللطيف البغدادي -وزير الشؤون البلدية والقروية- هدم قريباً من عشرين مسجداً في جراحة لتجميل القاهرة! ترى لو كانت هذه معابد يهودية، أكان يفعل ذلك؟ إنها المؤامرة على دين غط حراسه في نوم عميق! وكاد يهدم مسجد الخازندار لولا أن الله تعالى لطف بالمسجد.
وذكرت أشياء كثيرة، منها أن مصر الجديدة فيها أربع وثلاثون كنيسة، بينما ليس فيها إلا سبعة مساجد، وكان الذي خططها «البارون إمبان».
وحدث أن وزارة الداخلية رأت مصادرة الكتاب، وكي تتم المصادرة لا بد أن يُطلب المؤلف أمام محكمة خاصة، ويكون رئيسها مستشاراً، ويناقش المؤلف لماذا؟ وأنا لا أنسى اللحظات التي كنت فيها أمام المستشار، بعض الناس عرضوا عليّ أن يكون معي محامٍ، قلت لهم: لا، فأنا أدافع عن نفسي، والله تعالى يدافع عنا إن شاء الله.
وقال لي المستشار: ما هذا يا شيخ غزالي؟ قلت له: كتاب أدافع به عن الإسلام، قال لي: لا، فهذا كتاب يعمل إثارة وفتناً، قلت له: ما فيه حقائق أم أكاذيب؟ قال لي: حقائق، ولكن ليس كل حق يقال، فقلت له: نعم، ليس كل حق يقال بالنسبة لبعض الناس، قال لي: ماذا تقصد؟ قلت له: أنا سأضرب لك مثلاً لكي تعرف منه ما أقصد؛ تخيل أن سيادتك، وأنت تبيت في القاهرة في جنح الليل، وجدت لصاً يحاول كسر قفل لدكان كي يسرق الدكان، فقلت في نفسك: لو تعرضت له سيضربني بسكين معه، وآثرت أن تترك المكان، فأنت حر، قد تؤاخذ أو لا تؤاخذ، لكن المهم عندي أنك أنت تفعل هذا، لكن رجل الشرطة إذ ترك هذا اللص فسيكون خائناً، قلت له: أنا عسكري للإسلام، أنا شرطي الإسلام، وحارس الإسلام، فأنا مراقب الشؤون الدينية في وزارة الأوقاف فلا بد أن أرى هذه الأشياء.
أشهد بالله أن الرجل اهتز، وتحرك الكتاب في يده، ثم بدأ يقرأ هذا الكتاب، قلت له: هل المجلس البلدي يكذب أو مخطئ، لأني أتيت بهذا الكلام وهذه الإحصائيات منه؟ قال: لا، إذن ما ثبت أن هناك خطأ، ثم أخذ يناقشني في أمور من الكتاب، ثم رأى أن يصدر حكماً على وزارة الداخلية ببطلان تصرفها، وأمر بترك الكتاب، لكنا كنا محكومين بقانون الطوارئ، فالضابط سمع الحكم ولم ينفذه، وبقي الكتاب مع كتابين آخرين في المعتقل»!
«ولقد شعرت أننا نقاد قيادة لنرضي الصليبيين، وأن الحكام في عالمنا الإسلامي يسخرون كلمة القومية العربية أو العروبة للبعد عن الإسلام، وكأنها عقيدة جديدة تحل محل الإسلام، وأنا ما فهمت العروبة إلا إسلاماً، وما فهمت الثورة إلا أنها عودة إلى الإسلام، وظهر هذا في أمرين: أنني كنت بطبيعة جهادي وكفاحي شخصاً بارزاً، فاشتبكت مع الدولة في مؤتمر وطني في الستينيات، وكان اشتباكاً شديداً، ثم كنت في الجامع الأزهر، والجامع الأزهر الرئة التي تتنفس منها القاهرة، وكنت أتحدث، وكنت بغيضاً إلى الجهة الحاكمة، ولكن كنت أتكلم بشيء من الحذر، وأجتهد كي لا أقع في أيدي الذين يطبقون القانون بوحشية، وبذلت جهدي لكي أنير الطريق لهم، ما كان بد في النهاية من الصدام، وصورت في أربع عشرة صورة كاريكاتيرية ساخرة رسمها صلاح جاهين ونشرها بـ«الأهرام»، أول صورة فيها العمة ساقطة على الأرض بفعل قوانين الجاذبية العلمية، وأني رجل أمثل الرجعية التي يجب أن تزول، وكذلك صورة أبو زيد الهلالي سلامة.. وهكذا»([6]).
وفي عهد الرئيس السادات، عارض الشيخ الغزالي -مع عدد من كبار العلماء- منهم الشيخ محمد أبو زهرة (1316 – 1394هـ/ 1898 – 1974م)، تعديلات قوانين الأحوال الشخصية التي وقفت وراءها زوجة رئيس الجمهورية -التي وصفها الشيخ الغزالي بكلمات لاذعة- فكان أن حوصر، وعزل من عمله، وبعبارته: «لقد كنت في القاهرة مهزوماً مظلوماً، وأُخرجت من عملي في وزارة الأوقاف بطريقة وحشية، فكنت مديراً عاماً للدعوة الإسلامية، فقيل لي: لا تدخل مكتبك، واذهب إلى حيث شئت»([7]).
وصودر كتابه «قذائف الحق» الذي نشر فيه مخطط البابا شنودة، في محاضرته الكنسية الخاصة في 17/7/1972م، لإعادة مصر قبطية كما كانت قبل الإسلام([8])!
لكن الرجل بقي «كشجر الصبار، الذي ينبت في الصحراء، حيث تختزن أوراقه مقادير من الماء بحيث لا تموت مع اللفح ومع السعير».
العدد (2016)، 13 شوال 1433هـ/ 31 أغسطس 2012م.
([2]) «الشيخ محمد الغزالي.. الموقع الفكري والمعارك الفكرية»، طبعة دار السلام، القاهرة، سنة 1430هـ/ 2009م، ص 138، 155، 102، 103.
([3]) نفس المرجع: ص 98، 99، 295، 296.
([4]) نفس المرجع، ص 101، 15، 304، 305، 298.
([5]) نفس المرجع، ص 51، 57، 59، 60، 87.
([6]) نفس المرجع، ص 40، 85، 86، 68، 69، 107، 108، 69، 70.
([8]) «قذائف الحق»، ص 57 – 65، طبعة صيدا، لبنان، المكتبة العصرية.