في محاورات الشيخ الغزالي تناثرت إشارات إلى تيارات فكرية -قديمة وحديثة ومعاصرة- وإلى بعض أعلام العلماء:
لقد أشار إلى المعتزلة، فضرب مثلاً «بالزمخشري (467 – 538هـ/ 1075 – 1144م) الذي يعتبر آية من آيات الله في التفسير البياني لآيات القرآن الكريم، وربما استفاد منه جمهور المفسرين كلهم، وقد اعتمدوا عليه في التحليل البلاغي للجمل القرآنية.
والقاضي عبدالجبار (415هـ/ 1024م) المعتزلي، كان من ألمع الناس عقلاً، وأحدهم فكراً، جادل أهل الكتاب جدالاً، رجح فيه كفة الحق ونصر به الكتاب والسُّنة([2]).
وتحدث عن الشيعة: «من الإماميين والزيديين ممن يعيشون في الماضي، يريدون أن يعيدوا لنا معركة الجمل، ومن ثم فلن يصلحوا للحاضر والمستقبل، ولن ينجحوا الآن في معركة فلسطين، فنحن الآن بحاجة إلى من ينقذ المستقبل، فالبكاء على الماضي لا يكفينا ولا يشفع لنا.
لقد بدأت الخلافات بين السُّنة والشيعة بحق الإمام علي في الخلافة، وهي مسألة تاريخية، وانتهت، ولو كنا في القرن الأول نعمل انتخابات حرة، لكننا الآن في القرن الخامس عشر للإسلام، ما معنى المعركة على أحقية الإمام علي في الخلافة؟ شيء لا معنى له، ولا يصح أن ندع أسس الإسلام الأولى في الكتاب والسُّنة تتهالك وتتهاون، والصليبية زاحفة، والصهيونية زاحفة، مع هذه الخلافات، وودت لو أن التقارب يبدأ، وأنا أطلب هذا التقارب بإلحاح»([3]).
حديثه عن السلفيين:
وتحدث الشيخ الغزالي في محاوراته عن السلفيين، فقال: «هناك خطأ شائع الآن، فكثير ممن يسمون أنفسهم الآن السلفيين ليسوا هم السلف المعنيين في الفقه الإسلامي، ولا في التاريخ الإسلامي، فالسلف في التاريخ الإسلامي، وفي السُّنة، هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أتباع الرسول بعد الصحابة، وينضم إليهم أتباع الأتباع، الذين اقتربوا من النور، من مصدره.
وقد لاحظت أن من يقتربون من السيرة النبوية حتى في المطالعات وفي قراءة السُّنن ترتبط أرواحهم بشيء من البهاء والرقة ونقاء الضمير؛ لأن الشخصية القوية أودعت بعض قوتها في آثارها.
أما من يزعمون السلفية في هذا العصر فهم أوزاع من الشباب، لا صلة لهم بهذا المصطلح، وإنما هم يتشبهون، وليتهم يتشبهون بالعقائد والأخلاق والمبادئ والمعاملات، لكنهم ظنوا أنه يكفي جلباب أبيض، وبعض الأحكام، وهم في الحقيقة عند التشخيص العلمي هم غلاة الحنابلة، وغلاة الحنابلة هم جماعة عرفوا بالسطحية، والتعصب للسطحية، وعرفوا في الفروع بأنهم أتباع لابن حنبل، ومتشددون جداً في اتباعه، ومخاصمة غيره، وحكى عنهم «تاريخ بغداد» أنهم كانوا يرجمون أحياناً أتباع بعض المذاهب الذين يرون مثلاً أن القنوت في الفجر، كالشافعية، أو المالكية، ولو أن الشافعية هم الذين كانوا يملؤون بغداد، فكان الحنابلة يقذفون مساجدهم بالحجارة لأنهم يكرهون أن يسمعوا القنوت في صلاة الفجر، فهؤلاء هم الذين يعيشون الآن للأسف، ويريدون نقل أفكارهم وتصوراتهم الضيقة لتكون هي السلفية، وبالتالي فما عداهم يُحارب، ولعل هذه فتنة من أخطر الفتن التي أصابت التيار الإسلامي في عصرنا، هذا بل أظن -والله أعلم- أن النكسات التي أصابت الحركة الإسلامية سببها هو انتشار هذا المد السلفي وما يحيط به من جهالات وقصر.
إن من ينتسبون إلى السلفية الآن ليسوا فقهاء»([4]).
جماعة أنصار السُّنة:
وأشار الشيخ الغزالي -في محاوراته- إلى جماعة أنصار السُّنة المحمدية، فقال: «إن جماعة أنصار السُّنة المحمدية في القاهرة أو في بقية العواصم الإسلامية، هي امتداد لحركة محمد بن عبدالوهاب، التي نشأت في جزيرة العرب، وأساس الحركة هي تنقية عقيدة التوحيد من الشوائب التي لحقت بها.
ولقد لاحظت أن أنصار السُّنة هؤلاء فيهم تشبث بالغ، وفيهم قسوة مع الآخرين، وفيهم نقل للأدواء من بلد إلى بلد دون معرفة بالفروق بين البلاد المختلفة، أما بالنسبة للعبادات، فهم يرون المذاهب أشبه بفرق تكاد تكون قريبة من الضلال، وإن لم يصرحوا بهذا، ويقولون: لا نتبع مذهباً، ولكنا نأخذ من السُّنة مباشرة، وعندما يأخذون من السُّنة مباشرة هم في الحقيقة يتبعون مذهب ابن حنبل، وهو أقرب إلى أهل الحديث منه إلى الفقه، وإذا ابتعدوا عنه قليلاً يذهبون إلى آخر، وقلما يعتقدون بمذهب يعتبر بعيداً عن الأربعة إلا إذا اتبعوا ابن تيمية»([5]).
وتحدث الشيخ الغزالي -في هذه المحاورات- عن الجمعية الشرعية، فقال: «تتميز الجمعية الشرعية بإتقانها للصلوات، وربما بالغت في هذا الإتقان حتى إني خُدعت مرة في أحد مساجد الجمعية، وأنا في مصر القديمة، فدخلت لصلاة الظهر، فعددت في كل ركعة وسجدة حوالي عشرين تسبيحة، مما جعلني أتوب عن الذهاب لهذا المسجد مرة أخرى.
وكنت وأنا طالب كثيراً ما أؤدي صلاة الفجر في مسجد «الحافظية» بشبرا، وكان هناك قارئ لعله كان كانساً للطريق، ومع ذلك كان يحفظ القرآن وله تلاوة خاشعة، وصوت مستحب، وكنت وأنا طالب في الكلية أحب أن أصلي وراءه، وكنت أصلي متخفياً في الصفوف، لكن عُرفت بأنني أصلي في المسجد، ثم امتدت هذه الصلة، وشعرت بأن الجمعية الشرعية جديرة بأن تُقوّم ويقدّر عملها بقيمة محترمة، كان أهم شيء عندهم محاربة البدع في العبادات.
اتصلت بالشيخ أمين خطاب، وكان رئيساً للجمعية، وهو رجل بكّاء، كان كثيراً ما يدرّس لنا في كلية أصول الدين ثم يغلبه البكاء، لأنه عابد خاشع القلب حزين على أحوال المسلمين، مربٍّ جيد التربية، وكنت وأنا طالب أداعبه أحياناً بأشياء، أقول له: البرتقال سرته تؤكل أم لا تؤكل؟! نوع من المداعبة، فكان يضحك بتقوى وتؤد وصوت خافت، ويدعو الله لي.
والجمعية الشرعية تحترم الأئمة الأربعة، وتأخذ منهم، وترجّح، وقد أعطى صاحبها نفسه حق الترجيح، وهذا حقه لا تنكره عليه، وهو رجل عالم.
ولقد لاحظت عليهم أنهم كتبوا في دستورهم أن يبتعدوا عن السياسة، ولاحظت أن هذا النص يكاد ينتظم في الجمعية الشرعية وأنصار السُّنة وجماعة التبليغ، ولقد لاحظت أن هذا النص قد جعل في تصرفات الجمعية شيئاً من الخطأ العلمي والخطأ السلوكي، إن ديناً يشمل معالم الدنيا كلها ويشمل معالم الآخرة كلها ينتهي أمره إلى أن يكون زياً وعمامة وشعراً في الوجه -هي معالم صحيحة، وسمة ظاهرة- لكن اهتمّ بهذا اهتماماً كبيراً فضاعت حقائق كان لا بد أن تبرز في المستقبل..».
وأشار الشيخ الغزالي، في محاوراته، إلى الإمام الشيخ محمد أبو زهرة (1316 – 1394هـ/ 1898 – 1974م) فقال: «كان أستاذاً نابهاً، وإماماً، وكان يحسن إلقاء محاضرته، تسمعه من أول المحاضرة، إلى آخر المحاضرة، فترى صوته لم يضعف، وذهنه لم يخمد جذوة، كان مجادلاً من الطراز الأول، يحسن تلقي الحوار والدوران معه دون قلق، وكان خادماً للحقيقة وأميناً عليها.
وقد شكا لي -أنا والشيخ سيد سابق- أن اسمه لا يرد في أي صحيفة، فلما مات د. عبدالله العربي، وكتب تعزية في الصحف منعت من النشر لأن اسم الشيخ أبو زهرة فيها، وهذا كان في عهد الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وكانت هذه الفترة فترة ابتلاء شديد في الحقيقة، لكن الرجل بقي ثابتاً وصلباً، يخطب ويحاضر ويؤلف ويدرس ويوجه ويجمع في بيته لا يبالي، ويهتف كالأسد في عباراته دون قلق»([6]).
ومن العلماء الذين عاشوا في «فترة الابتلاء» هذه، وأشار إليهم الشيخ الغزالي في محاوراته، الشيخ محمد محمد المدني (1325 – 1388هـ/ 1907 – 1968م) الذي قال عنه الشيخ الغزالي: «هو رجل من ألمع علماء الأزهر وأكثرهم دقة، فهو كان مالكياً، لكنه درس مذاهب ابن تيمية، وابن القيم، وابن حزم، وغيرهم، كما درس المذاهب الأربعة، ولقد سمعت منه: «من قدم لي دراسة في فقه عائشة أعطيه الدكتوراة».
كان من أعظم الرجال الذين حملوا الدعوة الإسلامية، وكانت دروسه الصباحية هي ودروس الشيخ شلتوت نماذج للأدب الديني والوعظ المستنير والجمع بين الماضي والحاضر، وكان له زميل أعتبره أنا أيضاً من أساتذتي الذين انتفعت بهم، وهو الشيخ محمد عبدالله دراز (1311 – 1377هـ/ 1894 – 1958م)، هذا رجل كان يجيد قراءة القرآن وله عقل لماح، ويتقي الله تعالى».
ومن الكلمات اللاذعة التي يرويها الشيخ الغزالي عن الشيخ المدني، قوله في الاتحاد الاشتراكي:
إذا بلغ الرضيع لنا فطاماً
يروح إلى اتحاد الشرك فينا
هذا نوع من الدعابة اللاذعة([7])!
كذلك أشار الشيخ الغزالي في محاوراته إلى الأستاذ أبي الحسن الندوي (1333 – 1420هـ/ 1914 – 1999م) فقال: «أنا أعتبر الأستاذ أبا الحسن الندوي من رجال الفكر القلائل في العالم الإسلامي، هو سبب النهضة الفكرية في الهند، وهو عقلها الراجح وقلبها النابض، وهو الرجل الذي خدم الإسلام أجلّ الخدمات في هذه البلاد وغيرها»([8]).
العدد (2018)، 27 شوال 1433هـ/ 14 سبتمبر 2012م.
([2]) «الشيخ محمد الغزالي.. الموقع الفكري والمعارك الفكرية»، طبعة دار السلام، القاهرة، سنة 1430هـ/ 2009م.
([4]) نفس المرجع، ص 156، 157، 158، 133.