رجل مفرد في فلاة من الأرض، أمرَهُ ربُه أن يؤذن في الناس، ووعده بأن يأتيه الموحدون من كل فج عميق، مات الرجل، ومضت بعدها قرون وقرون من الزمن، حتى تحقق وعد الله بميلاد أمة الإسلام، وفرض شعيرة الحج، تلك الشعيرة التي حققت موعود الله لإبراهيم، وجسدت سيرته ومسيرته، ليؤديها ملايين البشر المتعاقبة كل عام، وفي نفس مسرح الأحداث التي تمت فيها منذ قرون عديدة مضت.
مضت قرون عديدة، وتعاقبت أمم عديدة، اشتهر منها العرب بفن الشعر، ولم نرث منهم مُعَّلَّقة تصور سيرة سيدنا “إبراهيم”، واشتهر الرومان بفن التمثيل ونشروا المسارح أينما وجدوا ولم يتركوا لنا مسرحية عن قصة “إبراهيم”، واشتهر اليونان بالأساطير وكتابة الملاحم ولم تَرِث البشرية منهم شيئا عن سيدنا “إبراهيم”، واليهود والمسيحيون لم نر في شعائرهم تجسيدا للسيرة المباركة لأبي الأنبياء.
تحقق الوعد بحسب إرادة الله، وفي الوقت الذي يريده، وها هو يتكرر كل عام، بأداء شعيرة فريدة، وإن شئت فقل شعيرة غريبة وبعيدة كل البعد عن سائر الشعائر الدينية التي يمارسها البشر على اختلاف معتقداتهم؛ فالحج ليس مجرد زيارة سياحية أو تعبدية للأماكن المقدسة، وليس تجمعا للبكاء أمام حائط مبكى، وليس اغتسالا هندوسيا جماعيا في نهر “الجانج”.. إنه شعيرة يجسد فيه المسلمون سيرة الأسرة المباركة، ويؤدونه في مسرح الأحداث ذاتها.
شعيرة جماعية يؤدي فيها كل فرد من الجماعة دور البطولة المطلقة، يؤديها على مسرح الأحداث، يقتفي فيها آثار آدم وإبراهيم وأسرته المباركة.
لا فرق بين رجل وامرأة؛ فكلاهما يؤدي دور البطولة؛ المرأة تؤدي دور إبراهيم، والرجل يؤدي دور هاجر، كلاهما على خطى من كسر الأصنام واقتحم النيران وجابه العالم كله وحيدا بلا أنصار من أجل إعلاء كلمة التوحيد.
الرجل والمرأة هنا تلبية لنداء إبراهيم، كلاهما فسائل غرس كلمته الخالدة (لا إله إلا الله).
كلاهما على خطى “هاجر” التي ارتقت بالحب والتضحية والسعي والشعور بالمسئولية أرقى مراتب الإنسانية، إنها تُعَلِم كل البشر أنه: بالسعي لا بالتواكل، وبالتوكل لا بالسعي، تتفجر ينابيع الحياة من حيث لا يحتسب الإنسان.
كلاهما يسير على خطى سيدنا “إبراهيم”: الرجل الذي حطم الأصنام، واقتحم النيران، وواجه النمرود.. الرجل الذي قاوم باطل الشرك بتحطيم الأصنام في معقلها، وباطل الظلم والطغيان واستعباد الإنسان بمواجهة النمرود، وباطل الخرافة والجهل وغياب الوعي بمجادلاته مع قومه.. الرجل الذي عبّد الطريق لرسالة التوحيد، لطريق الأنبياء، لتحرير الإنسان ..
وبين الطواف والسعي، يجمع الحاج بين طريق الآخرة (الطواف)، وطريق الدنيا (السعي).
وهذا هو طريق الإسلام: دنيا ودين.. أولى وآخرة.. أرض وسماء.. سعي وتوكل.
إنه وعد الله في إعلاء كلمة التوحيد، وتوحيد طريقي الدنيا والآخرة معا.
{ملة أبيكم إبراهيم}.