يظل الخوف أحد الابتلاءات التي تقرها الفطرة الإنسانية والتكوين الآدمي كما أقرها الإسلام وجعلها باباً من أبواب مكفرات الذنوب ورفع الدرجات بالتصبر والاحتساب عليها، وربما كان هذا من أشد أنواع الابتلاءات الداخلة على الإنسان؛ إذ قدمه الله عز وجل على غيره في معرض الكلام عن الابتلاءات قال تعالى: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 155)، فبدأ به وظل القرآن الكريم يحدثنا عن الخوف ومواطنه وصوره في آيات متعددة حتى مع الأنبياء والمرسلين كموسى وإبراهيم ولوط ونبينا صلى الله عليه وسلم كما في رحلة الهجرة المباركة وغيرهم عليهم السلام كما جاء في قصصهم، بل وصل الأمر لما أقره الشرع من تسمية صلاة تعرف بـ«صلاة الخوف»، كما جاء في القرآن الكريم وفي سنة النبي الأمين صلى الله عليه وسلم.
ولما أراد الله عز وجل ختم الكلام في القرآن ببيان أعظم النعم على الإنسان، حصر النعم في نعمتين مرتكزتين، قال تعالى: (فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ {3} الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ) (قريش)، فالمطعم والأمن هما في حقيقة الأمر أكبر نعمتين تمهد استقرار الإنسان النفسي والعقلي والروحي الذي من خلالهما يستطيع أن يقدم ما عليه من واجبات تجاه ربه ودينه عبادة ونصراً، وتجاه دنياه ووطنه تعميراً وبناء.
الخوف الذي يحبه الله من العبد
والخوف الوحيد الذي يحبه الله تعالى من العبد هو الخوف منه الذي يوصل صاحبه إلى مراعاة الله في أعماله جميعها وتقديمه سبحانه على من سواه، قال تعالى: (فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ) (المائدة: 44)، (فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) (آل عمران: 175)، فيدفعه خوفه وخشيته من ترك الذنب، وقول الحق، ونصرة المظلوم، ومراعاة الصدق، وترك الزور، وترك الحرام.. وغير ذلك.
وقد اختلفت أولويات الخوف والهلع عند كثير من الناس تقديماً وتأخيراً، فقدم بعضهم الخوف من بعض الناس على الخوف من الله سبحانه، خاصة بمن يظن بهم نفعاً أو ضراً أو كانوا سبباً في إمضاء رزق أو كسب أو تحصيل مأرب، مع أن الله تعالى قد خص نفسه بهذه الأمور، وأكد وجودها واستمرارها منه سبحانه، فالرزق والنفع والضر والسلامة والعون وغير ذلك منه سبحانه، وما سيق على يد أحد من عباده لك إلا من باب الأسباب الموصلة للشيء لا المتحكمة فيه.
القرآن والسُّنة يعالجان الخوف والهلع
وقد عالج القرآن الكريم والسُّنة النبوية المشرفة الخوف الشديد والهلع الزائد عن الحد وما يعرف بمصطلح العصر بـ«فوبيا الأشياء والأشخاص»، هذا الذي يقعد الناس ويورث الأمراض ويميت الإنسان وهو ما زال على قيد الحياة، ينام ويستيقظ عليه، وتضعف الرغبة في العطاء معه، وتنعدم السعادة في وجوده، قد حدث هذا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وعالجه ووضع من خلال توجيهاته كيفية التصرف معه، ونعطي نموذجاً على ذلك:
روى أحمد عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ، قَالَ: مَا سَأَلَ أَحَدٌ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الدَّجَّالِ أَكْثَرَ مِمَّا سَأَلْتُهُ عَنْهُ، فَقَالَ لِي: «أَيْ بُنَيَّ، وَمَا يُنْصِبُكَ -يصيبك- مِنْهُ؟ إِنَّهُ لَنْ يَضُرَّكَ»، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، إِنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ مَعَهُ جِبَالَ الْخُبْزِ وَأَنْهَارَ الْمَاءِ فَقَالَ: «هُوَ أَهْوَنُ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ ذَاكَ».
وقد أوضح الحديث صوراً يجب إبرازها:
– الخوف الشديد من الأشخاص الذي دفع الصحابي الجليل أن يكثر من السؤال عن الدجال مراراً وتكراراً، حتى إنه أقر أنه لم يسأل أحد عنه مثل ما سأل هو، وكأني به كلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم يدفعه خوفه لسؤاله عنه لمّا عَلِم به وسمع كلام النبي صلى الله عليه وسلم عنه، ما جعله يخرج من دائرة توجيه النفس في كيفية الوقاية منه ومن فتنته إلى الخوف الشديد منه والتفكير الهلع الدائم فيه.
– إن الإنسان يهول من الأشياء ويضخم من الأشخاص إذا خاف منها خوفاً شديداً، حتى إنه قد تصل به الحال إلى إعطاء شيء من صفات ربه وطلاقة قدرته لهما -نعوذ بالله عز وجل- وذلك من طبيعة الإصابة الشديدة بهذا المرض وتمكن المخاوف منه.
– إن وجود هذه الأشياء والأشخاص في حياتنا أو إذا مرت بأيامنا ليست إلا مقدرات الله تعالى في كونه وسننه في ملكه وملكوته وعباده، بل هي من جملة خلقه ومطلق تصرفه يثاب الصابر عليها المتعامل بحق معها، ويعاقب المقصود بها، والأصل عند ذلك أن نعرف كيفية التعامل معها ونأخذ بالقوة في دفعها والنجاة منها وتجميع الأسباب في علاجها.
– إن كثيراً من هذه «الفوبيا» التي تصيب الناس اليوم سببه الآلة الإعلامية أو الشائعات الدعائية أو الترويج الزائف أو الحكايات الخيالية لهذه الأشياء والأشخاص، وحتى لو كانت حقيقة فليست بمقياسها التي سيقت عليه ولا هي بقوة ما صدرت به، إذا قُرِئت في سطرها الحقيقي في هامش كتاب الملك الجبار، وللأسف فقد بنى كثير من هؤلاء الأشخاص قوتهم وبطشهم على ترهات هؤلاء المدعومين النافخين وجعلوهم سلاحاً ينفرون به المسلمين ويخوفون به أهل الحق، ولذلك قال المغيرة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنهم يزعمون»، وهذا حقيقي مجرب، فالمخاوف التي تؤدي للهلع والرعب و«الفوبيا» سببها كلام من لا يعرف فيما لا علم له وفتح باب الادعاءات والتضخيم في غير محله، وأخذ الشيء من غير مصدره وأصحابه وأهل اختصاصه.
ولعلاج هذا من خلال حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم يكمن في المعطيات الآتية:
– الرفق بالهالع والمرعوب الذي يطمئنه المعلم المربي، ويخفف عنه شدة الأمر ووترته بل يسوق له من فواتح الكلمات ما تسكن به الروح ويطمئن له القلب ويتقوى به العود.
– الحوار الهادئ العقلي المبني على مخاطبة العقل والعاطفة معا بحقائق الأمور ومواطن الثغور، فيعلي من قيمة التفكير الإيجابي والفهم البين الواضح لحقيقة الأشياء، والأشخاص، فيسكن التفكير أو يغير مساره المضطرب، ويقوي في نفس الوقت عضلة القلب الإيمانية المتعلقة بالله المسلمة له ولقضائه.
– إبراز حقيقة الأشياء والأشخاص ووضعها في نصابها التي خلقت له وصورتها التي لا تتعداها؛ «هو أهون على الله»، وكل ما كان على شاكلته أو استاق منه فعلاً وخلقاً أو صورة ومثالاً فهو أشد هواناً مهما ملك أو تحكم، ولعل هذا الإبراز هو الذي يثبت هذا الذي سيخاطبه يوماً بلسان وقلب وعقل المتربي على منهج نبيه، كما في قصة الدجال عند البخاري عن أبي سعيد الخدري: «يَأْتِي الدَّجَّالُ، وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْهِ أَنْ يَدْخُلَ نِقَابَ المَدِينَةِ، فَيَنْزِلُ بَعْضَ السِّبَاخِ الَّتِي تَلِي المَدِينَةَ، فَيَخْرُجُ إِلَيْهِ يَوْمَئِذٍ رَجُلٌ، وَهُوَ خَيْرُ النَّاسِ -أَوْ مِنْ خِيَارِ النَّاسِ- فَيَقُولُ أَشْهَدُ أَنَّكَ الدَّجَّالُ الَّذِي حَدَّثَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَدِيثَهُ، فَيَقُولُ الدَّجَّالُ: أَرَأَيْتُمْ إِنْ قَتَلْتُ هَذَا، ثُمَّ أَحْيَيْتُهُ، هَلْ تَشُكُّونَ فِي الأَمْرِ؟ فَيَقُولُونَ: لاَ، فَيَقْتُلُهُ ثُمَّ يُحْيِيهِ، فَيَقُولُ: وَاللَّهِ مَا كُنْتُ فِيكَ أَشَدَّ بَصِيرَةً مِنِّي اليَوْمَ، فَيُرِيدُ الدَّجَّالُ أَنْ يَقْتُلَهُ فَلاَ يُسَلَّطُ عَلَيْهِ».
– ترك الأمور الغيبية والانشغال الكثير بها لله تعالى، والأخذ بالأسباب في علاج واقعك ويومك ولحظتك فهذا هو المهم، فما قد تحمل همه من أمور ما زالت في علم الله تعالى ولم تنزل منه قضاء، ربما تموت قبل أن تصرف، وربما يمسكها الله ولا يصرفها وربما صرفها ولم يجعلك من المتعرضين لها أصلاً، فانشغل بنفسك وشواهد حياتك.
– رؤية الأشياء دائماً في سياقات ودلالات سيقت لمثل هذه المواقف من الاستنصار بالله والتقوي والاستعانة به، وأعظمها قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا) (الحج: 38)، وحديث رسول الله المطمئن لعبدالله بن عباس: «احْفَظِ اللهَ يَحْفَظْكَ، احْفَظِ اللهَ تَجِدْهُ تُجَاهَكَ، وَإِذَا سَأَلْتَ فاَسْأَلِ اللهَ، وَإِذَا اسْتَعَنْتَ فَاسْتَعِنْ بِاللهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُ».
وأخيراً؛ أنصحك بمقولة المصطفى من باب التسرية والدعاء والرجاء في كل هلع وصل بك أو رعب سيق إليك من شخص أو شيء، قل لنفسك ولغيرك: «إنه لن يضرك»، وابتسم لمنهج نبيك الكريم صلى الله عليه وسلم.