تضيق الأوطان بأصحاب الدعوات والأفكار الجديدة خاصة ما يمس هوية المجتمعات وموروثاتها، وتلك طبيعتها منذ بداية الخليقة ومنذ إرسال الله عز وجل رسله للخلق، فيخرجوا من بلادهم مطاردين إلى وجهات بالعالم تتحمل أفكارهم ودعواتهم ورسالاتهم فلا تضيع في غياهب الظلم والملاحقة.
وبما أنها سُنة الله في الدعوات، فقد مضت بمكة حين ضاقت على النبي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فاضطرتهم لهجرات متتالية للحبشة حين خرج الصحابة رضوان الله عليهم إليها فارين بدينهم، وحين اشتد الحصار على رسول الله خرج للطائف في صحبة ابنه بالتبني -قبل تحريمه- زيد بن حارثة للبحث عن أرض أخرى تستوعب دعوته.
غير أن إرادة الله شاءت وجهة أخرى، وعاد النبي صلى الله عليه وسلم من الطائف في جوار المطعم بن عدي، واشتد الحصار على الدعوة الوليدة في مكة، وغاب الكثير من الصحابة بالهجرة أو بالوقوع في دائرة الأسر والتعذيب خاصة الذين ما زالوا موالي لسادة قريش ولم يستطيعوا الفرار، فأصبحت هجرة الدين ومن يمثله واجبة لأرض حرة، أرض يحكمها العدل والأمان ليمارس المسلمون عباداتهم بحرية وينطلقوا منها فاتحين.
ومن سُنة الله عز وجل أنه قد حبا الأمة الخاتمة بخصائص لم تنلها أمة أخرى، فالإسلام أتى مهيمناً، وأمته تحمل الخيرية ما دامت قائمة بشروطها وتعمل بمقتضياتها وهي الدعوة للإسلام والتحرك في ربوع الأرض بها؛ (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ) (آل عمران: 110)، فالهجرة تكون واجبة حين لا يستطيع المسلم إقامة دينه ونشر كلمة الله بحرية وما يستلزمه ذلك من الحفاظ على النفس وعدم تمكين الظالمين منها.
لماذا كانت الهجرة ميلاداً جديداً للإسلام؟
مثَّلت الهجرة حدثاً غير عادي في التاريخ الإسلامي حد أن يدفع الفاروق عمر رضي الله عنه أن يتخذ تاريخها بداية للتأريخ الإسلامي، وقد كان حرياً من وجهة نظر البعض أن يكون ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم نفسه هو بداية التأريخ، أو بداية نزول الوحي مثلاً، وبعد دراسة ونقاش استقر رأي الصحابة على عام الهجرة النبوية الراشدة من مكة المحببة لقلب رسول الله عليه الصلاة والسلام، وترجع أهمية ذلك اليوم في تحول النبي صلى الله عليه وسلم ذاته من شخص تعاديه مكة، لفكرة مخلدة استطاعت أن تعبر حدود الظلم في موطنها، لتدخل في نطاق العالمية متخذة يثرب نقطة انطلاق ثابتة ينبعث منها نور الإسلام بسلام تحميه دولة مكتملة الأركان.
وبما أن أمة الإسلام هي الأمة الخاتمة، فقد جعل معجزتها في نفسها، في عقلها وحكمتها وقوتها وتخطيطها، وليس في معجزات خارقة تعجز الإنسان، إنها أمة العمل الجاد وصناعة الحضارات بالعلم والبحث واستقراء التاريخ، أمة تمر في مراحلها بالتقدم الإنساني بشقيه المادي والروحي، والإسلام لا موطن محدداً له، وإنما موطنه العالم أجمع، إذا ضاق منه جانب، فعليه الانتقال إلى مواطن انطلاق أخرى، لذلك مثلت الهجرة ميلاداً نبوياً جديداً، كذلك للإسلام، وقد كانت عملاً بشرياً خالصاً بالرغم من حدوث بعض المعجزات أثنائها، وتلك المعجزات لم تكن وقفاً على نبي الأمة، وإنما رأينا منها ما يذهب العقول لكل من سار على هديه عليه الصلاة والسلام وحمل لواء التغيير عبر التاريخ الإسلامي العريق.
لقد علمنا فريضة استنفاد الأسباب البشرية ببذل كافة الجهود المتاحة في إطار «ما استطعتم»، وبرز معنى التوكل الحقيقي على الله تعالى وليس التواكل، إن سُنة البلاء في الإسلام ليست سيف عقاب من الله سبحانه على رقاب عباده، وإنما هي الاختبار العملي للبذل والإقبال على الله تعالى بالنفس والمال والوقت والتعلق به وحده دون غيره، وحين ينجح المؤمن فيما أوكل إليه، يأتيه نصره.
وهنا يجب أن نفرق بين البلاء بسبب التقصير والإخفاق في تخليص الوجهة لله تعالى وبذل الأسباب اللازمة لنجاحها، والبلاء وحجب النصر الإلهي لاختبار صبر الإنسان لتمحيصه، فادعاء أن طريق المؤمن كله إخفاقات وهزائم بهتان وتخذيل للناس عن دين الله عز وجل، إن الإسلام دين عزة وكرامة وغنى وعمل واجتهاد ورفعة وسعادة في الدارين، ولذلك فقد خطط نبي الله للهجرة كما قال الصديق أبو بكر رضي الله عنه وكأنه لا يوجد توكل، وتوكل وكأنه لا يوجد أسباب، اعتدال كفتي الميزان؛ الإيمان والعمل.
الإجراءات الأمنية التي سبقت الهجرة
كان يتم التخطيط منذ فجر الدعوة في بيت الأرقم على أساس الحفاظ على الطاقة البشرية، فالتضحية بالكوادر التي تمثل اللبنات الأولى هو تضحية بالدعوة ذاتها، فالجهاد لم يؤذن به بعد لعدم جاهزية الفئة المؤمنة له، وليس للإسلام دولة وأرض ثابتة يقف عليها، وما زالت الفكرة نبتة ضعيفة تحتاج الرعاية بإعداد جنودها ودعاتها والحفاظ عليهم حتى تنضج الثمار ويصير الرجل منهم بأمة، وحين تمت بيعة العقبة الثانية لاستقبال الإسلام بأرض جديدة، كان لزاماً على المخطط وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحافظ على تلك الفئة القليلة إنقاذاً للفكرة الوليدة بخطوات منظمة:
1- الاتفاق المسبق على الزمان والمكان مع تأمين الطريق.
2- سرية اللقاء، فلا يعلم بالموعد والمكان إلا من كان له صلة مباشرة ومهمة محددة تخص العمل.
3- الخطط البديلة والاستعداد للطوارئ، فالخطة الجامدة التي لا تحتمل التغيير حين يطرأ عارض أمني أو عملي، خطة فاشلة منذ البداية، فقد لا تتسبب في وقف العمل في بعض مراحله فحسب، وإنما قد تتسبب في خسارة القائمين عليه.
4- الأمر بانتخاب النقباء، وهم أفراد منتخبون من القاعدة التي يتم الاتفاق معها أو يتم دعوتها.
العوامل التي تساعد على نجاح التخطيط
1- الإيمان العميق بنصر الله تعالى والثقة به؛ فإيمان الداعية بصحة الرسالة التي يحملها، واعتقاده بأنها منصورة على أي حال سواء به أو بغيره، هو الحافز الأكبر للعمل وفق آلياتها واحتياجاتها، والبذل في سبيلها، والتزام شروطها.
2- الصبر الجميل والمثابرة؛ والعمل العام خاصة في محاولات التجديد، وعمليات التغيير الكبرى، يحتاج لصبر ومثابرة وجهد وعمل جاد واستماتة وعدم اليأس من ردود الفعل العنيفة للبعض.
3- اتباع الأسباب والوسائل المتاحة؛ فادعاء التوكل دون عمل استهزاء بالله عز وجل، وانتظار السماء أن تأتي بالفرج دون بذل كافة الأسباب المتاحة هو نوع من العته لا يليق بالمسلم.
في الطريق إلى مدينة رسول الله
تم التخطيط للهجرة فردياً، فلم يعلم بوقتها أحد على الإطلاق، وكان رفيق الرحلة أبو بكر الصديق يستأذن النبي صلى الله عليه وسلم في الهجرة، فيستبقيه رسول الله مرة بعد مرة دون أن يصرح له بأي تفاصيل غير أنها ربما تكون الصحبة، لم يعلم أحد إلا بالمهمة الموكلة إليه والموعد المناسب لخروجه لتنفيذها، فهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه يبيت في فراش النبي صلى الله عليه وسلم، وفي الصباح يذهب لرد الأمانات المحفوظة عند النبي صلى الله عليه وسلم الأمين لأهلها، وهذا أبو بكر الذي أعد الراحلتين دون علمه بموعد الخروج، وتلك أسماء بنت أبي بكر تذهب بالطعام إليهما في الغار، وهذا خباب يرعي الغنم ليضيع آثار أسماء فلا يتبعها أحد، وهذا الدليل -غير المسلم- الخبير بالطريق والأمين على رفقته، اعتمد عليه الصلاة والسلام التخطيط الفردي والتنفيذ الجماعي الدقيق بتوكيل كل مهمة لمن يصلح لها، حتى الطريق الذي اختاره كان الطريق المعاكس لاتجاه يثرب من باب التمويه.
لم يترك ثغرة للظروف تتحكم به صلى الله عليه وسلم، حتى إذا أنهى الأسباب كلها، كان حسن التوكل على الله تعالى حين أدركته قريش بالغار، هنا تتدخل المعجزة الربانية المهيأة لكل صاحب عزيمة فتتدخل ليقول لصاحبه: «يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما»، ذلك التخطيط والعمل الذي حول دار الأرقم لمهد حضارة من أعظم حضارات التاريخ، حضارة تملك عوامل بقائها واستمراريتها بصناعتها لرجال أتقنوا صنع التاريخ.