يتوقف الكثير من الدعاة في دروس الهجرة عند السنوات الأولى للإسلام سواء في هجرة الصحابة إلى الحبشة، أو في هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، ولا يبحثون في تاريخ الإسلام عن تأثير ودور هجرة العلماء والدعاة في نشر الإسلام، بعدما استوطن غالبية هؤلاء الدعاة تلك البلاد، واحتوى ترابها أجسادهم، فكانت تلك الهجرات انتصاراً للإسلام بلا حرب.
والحقيقة أن الارتباط بالأرض له حضوره في وجدان الإنسان، لكن رؤية الداعية أكثر اتساعاً ونضجاً، فهو يرى الأرض كلها وطناً، وأن رسالته فيها الهداية والإعمار والإصلاح، وأن البشر جميعاً «إما أخ له في الدين، أو نظير له في الخلق»، وتلك رؤية تتحطم عليها العصبية، ويخبرنا التاريخ أن هجرات الدعاة والمصلحين جاءت بعد تضييق واضطهاد، فقرر هؤلاء الهجرة حفاظاً على دينهم وحريتهم، والانطلاق بدعوتهم إلى أرض جديدة تنتفع بما لديهم من خير، ومع هذه الروح تحولت الهجرة إلى فرصة، يقول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «ليس بلد بأحق بك من بلد، خير البلاد ما حملك»، ومن ثم فخير البلاد ما حمل الدعوة والفكرة والحرية والكرامة وسعة الرزق.
ويلاحظ أن الهجرة كمفهوم وممارسة كانت محل نقاش وخلاف بين العلماء والفقهاء، بين مُجيز، ومقيد لها بشروط، وهو نقاش اتسع مع اتساع رقعة الإسلام واحتكاكه بالأمم والحضارات الأخرى، فنجد مثلاً الحافظ ابن الحجر العسقلاني قسم مقاصدها إلى نوعين:
الأول: الانتقال من دار الخوف إلى دار الأمن، ولعل هذا النوع ما مارسه أغلب الدعاة على مر العصور.
الثاني: الهجرة من دار الكفر إلى دار الإيمان: ولعل تلك الهجرات كانت -في بعض الأحيان- سبباً في إضعاف قوة الإسلام، ونذكر هنا فتوى الفقيه أحمد بن يحيى الونشريسي بوجوب هجرة المسلمين من الأندلس مع اضطهاد الإسبان، التي أثبتها في كتيب صغير بعنوان «أسنى المتاجر في بيان أحكام من غلب على وطنه النصارى ولم يهاجر وما يترتب عليه من العقوبات والزواجر»، وهي فتوى انتقدها محقق الكتاب المؤرخ حسين مؤنس قائلاً: مسؤولية الشيوخ واضحة، إذ لم يكفهم أن يفروا بأنفسهم مخلفين أهل دينهم، بل حرموا البقاء على من أراد من الرؤساء، وطلبوا إليهم الهجرة، ومعنى ذلك ترك الضعفاء يفعل العدو بهم ما يريد، كما وصفها مؤنس بأنها غير إنسانية، وأنه كان من الواجب على هؤلاء العلماء فعل شيء لاستنقاذ الناس، وليس حضهم على الهجرة.
هذا المقال يطرح نماذج من هجرات دعاة وعلماء، أثرت في مسار الإسلام وانتشاره، وانتقلت بهذا الدين إلى آفاق جديدة.
أبو البركات.. والشيخ الأجل
من نماذج الهجرات الناجحة هجرة يوسف أبو البركات التي قادت إلى إسلام سكان جزر المالديف، فقد وصلها ذلك الرجل الذي اختُلف في تحديد جنسيته الأصلية، فقيل: هو فارسي، وصومالي، ويمني، وبربري من المغرب، وقيل: من الهند، لكن الرجل كان الإسلام قضيته الأولى، فقد وصل تلك الجزر التي كانت تدين بالوثنية في القرن السادس الهجري، وتحديداً في 548هـ/ 1153م، وكان بحاراً، وحافظاً للقرآن الكريم، وعندما تحطمت سفينته، قذفته الأمواج إلى شاطئ جزيرة في المالديف، فمكث فيها حيناً، واستطاع تعلم لغتهم، وكانت لحظة التحول عندما رأى السكان الوثنيين سيقدمون فتاة قرباناً لما يسمونه «شيطان البحر» أو «راناماري»، ولما رأى بكاء والديها، قرر أن يذهب بدلاً من تلك الفتاة، ليهدم تلك الأسطورة، ولما عاد سالماً، ذهبوا به إلى ملكهم ماها كلامنجا فعرض عليه أبو البركات الإسلام، فأسلم الملك، وأسلم معه قومه، وتمذهبوا بالمذهب المالكي، واستمر مقيماً فيهم ثلاثة عشر عاماً، لازم فيها السلطان يعلمه الدين ويحثه على نشره في البلاد، ويحضه على بناء المساجد، حتى تلاشت الوثنية من المالديف، ولما توفي أبو البركات دفن هناك، وما زال بيته مزاراً حتى الآن.
يذكر الرحالة ابن بطوطة، الذي أقام في المالديف 14 عاماً تولى خلالها القضاء، أنه رأي في العاصمة ماليه نقشاً خشبياً في مسجدها الجامع كتب عليه: «أسلَمَ السلطان أحمد شنورازة على يد أبي البركات البربري المغربي، وجعل السلطان ثلثَ مجابي الجزر صدقة على أبناء السبيل، إذ كان إسلامه بسببهم» ليتناوب على حكمها 84 سطاناً حتى العام 1932.
ومن الهجرات المؤثرة، رحلة الشيخ شمس الدين عمر المعروف بـ«الشيخ الأجل»، إلى الصين خلال حكم أسرة يوان المغولية للصين خلال الفترة من عام 1266م حتى عام 1368م، حيث أدى الرجل ثم أسرته دوراً في نشر الإسلام في ولاية يونان الحدودية بين الصين ومنغوليا، فقد كانت تلك الولاية متخلفة مقارنة بالولايات الصينية الأخرى، فساهم في الارتقاء بها، وبنى فيها المساجد والمعابد، وأوجد تعايشاً بين الطوائف أظهر فيها سماحة الإسلام.
والغالب أن أسرة شمس الدين عمر، ذات أصول عربية، هاجرت مع الفتوح الإسلامية واستقرت في بخارى، ثم ارتحل منها إلى الصين عام 628هـ/ 1229م فاستوطنها، وتولى عدة مناصب، وكانت سياسته تميل إلى العدل الاجتماعي، وتخفيض الصراعات بين الناس، وفي عام 673هـ/ 1274م عينه الإمبراطور قوبلاي خان حاكماً على يونان التي كانت تعاني الفقر والاضطرابات بين الأقليات والقوميات، وكان عمره آنذاك 63 عاماً، فنهض بها، وقد تعجب باحثون صينيون من اهتمام الشيخ الأجل بالثقافة الكونفوشيوسية، وبناء مدارس ومعابد لها، رغم إيمانه العميق بالإسلام، وقالوا: إنه لم يفعل ذلك إلا لأنه «تصين»؛ أي أصبح صينياً حتى النخاع، بعد هجرته وإقامته الطويلة في الصين، لكن الحقيقة أن الشيخ الأجل طبق منهج الإسلام في التسامح مع الأديان والثقافات الأخرى، واستمر بالصين حتى وفاته عن 69 عاماً في عام 677هـ/ 1279م، ومع وفاته بكاه أهل يونان كما يبكي الأبناء آباءهم.
الحضارمة.. وبلاد الشمس المشرقة
كانت هجرات الحضارمة من اليمن والجزيرة العربية إلى شرق آسيا وأفريقيا، واستقرارهم بها، أثرها في نشر الإسلام، فخلال ما يقرب من ألف عام أثرت تلك الهجرات في أرخبيل الملايو، وفي إندونيسيا على وجه الخصوص، فأقاموا هنا سلطنات إسلامية قوية، وكان ما يميز هجراتهم أن غالبيتها كانت استيطانية، فقد كانوا يتزوجون من أهالي تلك البلاد ويخالطونهم وينصهرون معهم، وهذا ما أكده المستشرق الإنجليزي توماس أرنولد في كتابه «الدعوة إلى الإسلام» من أن التجار والمهاجرين المسلمين العرب والهنود قد رأوا أن أقوم السبل لإدخال دين المسلمين إلى هذه البلاد أن اتخذوا لغة القوم وكثيراً من عادات الأهالي وتزوّجوا من نسائهم، ونجحوا آخر الأمر في أن يُدخلوا أنفسهم في زمرة الزعماء الذين يتبوؤون أرفع مكانة في الدولة.
ومن الهجرات ذات التأثير هجرة الشيخ التتري عبدالرشيد إبراهيم (1864 – 1944م)، ذلك العالم الكبير الذي انطلق بالإسلام لنشره في اليابان، ودون رحلته في كتابه «عالم الإسلام»، كان إبراهيم عالماً وفقهياً وقاضياً، والتقى بكبار المصلحين في العالم الإسلامي، وكان ذا شهرة كبيرة نظراً لما كان يكتبه في الصحافة في تلك الفترة التي عايش فيها المسلمون محاولات إحياء الخلافة الإسلامية، التي انتهت بإجهاض الحلم مع سقوط الخلافة العثمانية.
فمع صعود اليابان على المسرح العالمي بعد انتصارها على روسيا عام 1904م، قرر إبراهيم أن يرحل إلى اليابان رغبة في نشر الإسلام، يقول، عن ذلك: «لم يكن ورائي دافع ولا أمامي سائق»، وعندما نزل اليابان في رحلته الأولى، سعى لنشر الإسلام بقوة هناك، يقول: «وأنا بفطرتي سلكت طريق خدمة الحياة الإسلامية التي اعتبرها حياتي القومية، وتحملت في سبيلها كل المشاق، وضحيت بأهلي وأبنائي»، وشددت حزام الهمة على بطني وأمسكت بعصاً التوكل بيدي، ونويت مخلصاً إعلاء كلمة الله».
وفي تلك الرحلة زار المؤسسات اليابانية من السجن إلى البرلمان إلى الجامعة والسوق، والتقى بالنخبة وتواصل معها، واقترب من ثقافة الشعب الياباني، ولم يهدأ في رحلته حتى كوّن صورة قوية عن اليابان، وسجل تلك الرحلة وطبعها في كتاب عام 1909م بعنوان «رحلة إسلام».
ومع سقوط الخلافة العثمانية عام 1924م قرر إبراهيم أن ينطلق ثانية إلى اليابان في هجرة طويلة تستغرق بقية حياته، وأن يتخذها مستقراً وموطناً، فوصل اليابان في أكتوبر 1933م، واستقبل بحفاوة، لأنه كتب مقالاً دافع فيه عن اليابان عقب طردها من عصبة الأمم.
أراد إبراهيم أن يُلغي الوسيط الغربي في تعريف اليابانيين بالإسلام، ولم يكن من سبيل أفضل من الاستقرار في اليابان ومعايشة أهلها، وفي العام 1939م نجح في الحصول على اعتراف رسمي بالإسلام، وقبلها بعام حصل على دعم حكومي لبناء مسجد طوكيو، كما نشر مقالات للتعريف بالإسلام في الصحف اليابانية؛ وازداد احترام اليابانيين له عقب رفضه مغادرة البلاد أثناء الحرب العالمية الثانية، كان الرجل يعتبر أن بذرة الإسلام في بلاد الشمس المشرقة تحتاج أن يبقى رغم الصعاب، فكان ليله موصولاً بنهاره للتعريف بالإسلام حتى وفاته هناك في 31 أغسطس 1944م.