لقد عشت مع قضية فلسطين؛ سايرتُها مراحلها كلها، ولكن من مقاعد المشاهدين لا من مكان الممثّلين. لم أرَها من الداخل مع الخاصّة من أصحابها بل من الخارج مع العامّة من متتبّعي أخبارها، وإن شئتم تاريخها ممّن عاش معها في داخلها فتداركوا الأستاذ عزة دَرْوَزَة فاسألوه عن خفاياها، وإن أردتم معرفة خبرها ممّن كان قريباً من قادتها الذين لهم يد في تحديد مسارها فعليكم بالأستاذ أكرم زعَيْتر. أما أنا فلقد عرفت منها ما عرفت وكتبت عنها ما كتبت مستمِدّاً علمي من سطور الصحف وأفواه الناس.
والذي رأيته ورآه الناس كلهم هو أن تاريخ الظلم والسرقة والغصب والتعاون على الإثم والعدوان لم يعرف أبشع ولا أشنع ولا أفظع من قضية فلسطين؛ ناس آمنون في مساكنهم التي ورثوها عن آبائهم واشتروها بأموالهم، ما لأحد حقّ فيها معهم، جاء مَن لا يخاف الله ولا يتقي العار ولا يأبى اللعن فوعد بها عصابة من أخسّ اللصوص، ثم سعى حتى ولّوه هو أمرها و «انتدبوه» لتعليم أهلها فنون الحضارة، فكان خصمَها الحاكم فيها، وكان «حاميها»!
وعدٌ آثم بعده تعاون ظالم. ما اتفقَت دولة الشرق ودولة الغرب إلاّ علينا، هم دوماً في خصام ولكنهما يتفقان إنْ جمعهم عداؤهم للإسلام. ما التقى صاحب «البيت الأبيض» وصاحب «البيت الأحمر» إلا على كرهنا وعلى قتالنا، يعطوننا كلاماً حلواً، والكلام «بلاش» [١] ويعطون عدوّنا وسارقي أرضنا كل ما يريدون: من الشرق رجالاً لهم أيدٍ تعمل وأدمغة تفكّر، ومن الغرب مالاً يبني لهم وسلاحاً يقتلنا نحن، فإلى أين نلجأ؟
الملجأ قريب منا والمَنجى أمامنا، ولكن بهرج الحضارة المادّية أزاغ عنه أبصارنا، ذلك هو «البيت الأسود» في بطن مكة، البيت الذي يلبس الثوب الأسود وهو الأبيض بياض النهار المشرق، بياض النور الهادي، بياض الحقّ الأبلج. رَبّ هذا البيت الأسود هو وحده القادر على إنقاذنا من صاحب البيت الأبيض والبيت الأحمر، والبيت الأصفر إن انضمّ إليهما وكان معهما علينا في تأييد عدوّنا! فلماذا لا نرجع إليه، وبابه مفتوح ويده مبسوطة؟ لماذا نحوّل وجوهنا عن بابه؟
لماذا لا نُدخِل الإسلام في المعركة فيدخلها معه ألف مليون؟ إن جعلناها عربية خالصة لاسترداد الأرض العربية أبعدناهم عنا، ولكن إن جعلناها جهاداً إسلامياً لاسترجاع قبلة المسلمين الأولى ومسرى نبيّهم كانت معركتهم، ما نحن بأحقّ بها منهم لأن الأقصى لنا ولهم، والإسلام يجمعنا ويجمعهم. وسترون فيما يأتي من الذكريات أني قلت هذا الكلام لغلام محمد الحاكم العامّ لباكستان سنة 1954، أمام الشيخ أمجد الزّهَاوي والشيخ محمد محمود الصواف.
لقد دنونا يوم 1973من الإسلام قليلاً فَدَنا منّا النصر كثيراً، فلما عدنا فابتعدنا عنه رجع فابتعد عنا. قال أحد حكامنا يومئذ: “كنت أقاتل دولة إسرائيل ولكن لا أستطيع أن أقاتل أمريكا” ! وهذا صحيح بجميع المقاييس المادّية، فلا جيوشنا كجيوشها ولا سلاحنا كسلاحها ولا نحن في العلم مثلها، ولكن لو فكّر المسلمون الأوّلون مثل هذا التفكير ما فتحوا قرية واحدة من أرض الشام ولا العراق ولا مصر، لأن الروم والفرس كانوا يومئذ كأميركا وروسيا الآن؛ كانوا أقوى في العدّة وأكثر في العدد وأغنى بالمال. فلو استعملنا هذه المقاييس الأرضية المادّية لانهزمنا. لقد قسنا المعركة بمقياس آخر لا يزال له وزنه وقيمته حتى في أيام الدبابات والطيارات، هو القوة المعنوية [2] .
الجندي الذي يقاتل في سبيل عقيدة يعتقدها وجنة خالدة يطمع في دخولها إن مات في سبيلها ليس كالجندي الذي يُساق سوقاً إلى معركة يقاتل فيها مُكرَهاً عليها لا مقتنعاً بها، العصا
في يد الأول أقوى من البندقية، والبندقية في يد الثاني تؤخذ منه بالعصا. وإذا كان المثل الإسلامي الأول بعيداً عنكم فهاكم المثل القريب: ما يصنع المجاهدون المسلمون في الأفغان، وما صنعنا بالأمس في الجزائر وطرابلس (ليبيا) ، والغوطة وجبل الدروز، وفي الرميثة في العراق، وفي منطقة القناة في مصر، وفي كل مكان فيه مسلمون إذا دُعوا لَبّوا وإن استُنصِروا نصروا، على أنْ يُدعَوا باسم الدين لحماية الأرض والعرض وأن تكون معركتهم لإعلاء كلمة الله، فلقّنوا المقاتلين هذه العقيدة وانظروا ما يصنعون.
إني لا أريد أن أتألم ولا أن أؤلم القرّاء، ولكن ما حيلتي وأنا أعرض ما علق بذهني من مراحل قضية فلسطين، وما فيها إلا الألم؟ كل ما رفضناه بحقّ عدنا نطلبه ممّن لا يعرف الحقّ، حتى بعد نكسة (أو نكبة) ١٩٦٧. وسترون في هذه الذكريات أنّا رحلنا سنة 1954 إلى آخر آسيا نشرح للناس مأساة فلسطين، كنا نشكو ما كنا فيه قبل عدوان سنة 1967، فما الذي كان حتى مُسخَت مطالبنا فصار أقصى ما نريده هو «إزالة آثار العدوان»؟ أي أن نعود إلى ما كان وما كنا نشكو منه! ولن أزيد إيلامكم بسرد بقية القصة فإنكم تعرفونها.
وإذا لم يُعجِب بعضَ الناس المثلُ الإسلامي من أيام الفتوح والمثلُ الجديد من الأفغان، فهاكم مثلاً من قوم لا يدينون دين الحق ولا يتبعون شرع الله، آمنوا بالجبت والطاغوت فنصرهم الله بهذا الإيمان في الدنيا. وإن الإيمان يكون معه النصر دائماً، فإن كان إيماناً كإيمان الفيتنام نصرهم به النصرَ المؤقّت في الدنيا، حتى على أميركا وقوّتها الهائلة، أما إن كان إيماناً كإيمان الصحابة
فعاقبته النصر دائماً. ربما يخسر أهله معركة أو يُخذَلون يوماً ولكن العاقبة لهم، إن لم يروها في هذه الحياة الدنيا رأوها في الحياة الباقية. وما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع، إنها دقيقة واحدة من عمر الآخرة. فقد انتصر قابيل على أخيه وقتله، فاستمتع بلحظة النصر، فما نسبة هذه اللحظة لما مرّ من الزمان حتى الآن؟ وما نسبتها لما سيأتي في هذه الدنيا من أزمان؟ فكيف بالزمان الذي يُمضيه الكافر خالداً في نار جهنم؟
يقولون: إنكم تريدون أن تُلقوا بالإسرائيليين في البحر. وأنا أسأل الإنكليز الذين هم رأس البلاء ومبعث الداء، وأسأل الأميركان الذين يؤيدون الظلم وينصرون الاعتداء، وأسأل الروس الذين هم معنا بالمقال وهم يُمِدّونهم بالرجال، أسألهم جميعاً: ماذا يصنعون لو جاء شعب نذل خسيس سارق مجرم يريد أن يطردهم من ربع لندن أو واشنطن أو موسكو ويملكها من دونهم، ثم يعمل على التوغّل في بلادهم وسرقة طريفهم وتالدهم وإفساد بناتهم وأولادهم، ماذا يصنعون بهم؟ إنهم إن لم يلقوهم في البحر شرّدوهم في القفر أو وضعوهم في الأسر، وإلاّ فماذا؟ خبّروني ماذا تصنع الأمم بالواغل عليها يسرق ديارها ويمحو آثارها؟ ماذا يفعل من يقتحم اللص عليه بيته ليطرده منه ويَسكنه من دونه: هل ينصب له المائدة ليأكل ويمدّ له الفراش لينام، ثم يقف باحترام ليعطيه مفتاح الدار ويمضي بسلام؟!
هذا هو السلام الذي تريده إسرائيل والذي كان منّا من يرحب به ويصفّق له. يقولون: وإلى أين نذهب بهؤلاء اليهود؟ لقد ألقى هذا السؤالَ رئيسُ أميركا الذي كسب الحرب، ألقاه على ابن الصحراء الإمام العبقري الملك عبد العزيز، فردّ سؤاله بسؤال وجّهه إليه هادئاً، قال له: من أين جاء هؤلاء؟ أرجعوهم إلى بلادهم التي أُخرِجوا منها. لقد بُهت روزفلت ولم يقدر على الجواب لأن الحقّ غلاّب.
قالوا: إنكم رفضتم التقسيم ثم جئتم تطالبون بالتقسيم! نحن كمن كان يمشي آمناً فاعترضه مجرم خطف كيس نقوده وفيه ألف ريال، فلحقه يطالبه به فقال: تأخذ خمسمئة لك ولي خمسمئة. فأبى، وحقّ له الإباء فالمال ماله والكيس كله له، فشدّ اللص يده على الكيس وعدا هارباً، فلما يئس منه قال: طيّب، هات الخمسمئة. قال: لا، ذاك عرض مضى، تأخذ أربعمئة؟ فأبى ومضى اللص، فلما يئس منه قال: طيّب، هات الأربعمئة. قال: لا، ثلاثمئة. تأخذ ثلاثمئة؟
رفضنا التقسيم، وما لنا ألاّ نرفضه؟ مَن يرضى أن تُقسَّم داره بينه وبين اللص الذي يقتحمها عليه؟ ورجعنا فطالبنا به حتى لا تذهب الدار كلها ما دام قد غلب الباطل وفُقد النصير.
أنا لا أريد ولا أقدر أن أؤرّخ قضية فلسطين، أنا أدوّن ذكريات لا أكتب تاريخاً. ولكن أقول: إنه ليس في تاريخ الظلم والعدوان مثل قضية فلسطين، ولا في تاريخ التخاذل والانقسام وقلة الاهتمام مثل موقفنا من قضية فلسطين، ولا في تاريخ التعاون على الإثم والعدوان مثل موقف الدول في غرب الأرض وفي شرقها من قضية فلسطين. وما لنا إلا الله، فهل نعود إليه؟
___________________________
(١) بلاش (العامية) أصلها بلا شيء.
(2) قد تقولون هذا كلام شيخ لا يعرف الحرب، ولكن المارشال مونتغمري قاله في كتابه، أفلم يكن مونتغمري بطل العلمين يعرف الحرب؟
من كتاب «ذكريات».