التعليم عماد نهضة الأمم السابقة واللاحقة، وهو طوق نجاة العالم الثالث للحاق بالعالم الأول، إذا أحسنت بلاده نظم تعليمها، وأنفقت عليه بسخاء، وأولته الاهتمام، فضلاً عن إتاحة مناخات الحرية لكي يتنفس النظام التعليمي وينمو في بيئة سليمة تحقق التقدم المنشود.
حول هذه المسائل وغيرها نناقشها في هذا التحقيق مع نخبة من الخبراء التربويين والأكاديميين.
بداية، يؤكد د. محمد رأفت الجارحي، الأكاديمي المصري خبير النظم التعليمية في العالم العربي، أنه من أخطر التحديات التي يواجهها التعليم في بلادنا العربية، وفي مصر خاصة، أن التعليم ألعوبة الساسة والنظم السياسية التي تتولى أمر مجتمعاتنا، وهذا يتنافى مع القواعد الصحيحة لكون التعليم أداة لنهوض المجتمعات، ببعده عن العوامل السياسية في المجتمع.
ويعدد د. الجارحي أبرز التحديات التي تواجه التعليم في عالمنا العربي، وفي القلب منه مصر بما يلي:
1- تشوّه التصور عن معنى التعليم وأهميته ودوره في المجتمع لدى المخططين له والقائمين به، وتشوه تلك الصورة أيضاً في أذهان أولياء الأمور والطلاب؛ مما يشكل عائقاً يحول بين الطلاب والتحصيل الصحيح، وحسن الاختيار لتعليمهم الجامعي.
2- الجرأة في العبث بعقول أبنائنا، والإصرار على تلويثها بمحتويات مكذوبة، أو تافهة، أو بالية، تحت زعم تطوير المناهج، فالمحتويات الصادقة تاريخياً وعلمياً والمصاغة جيداً هي الكفيلة بصقل شخصيات أبنائنا في المستقبل؛ عقولهم، ونفوسهم، وسلوكهم.
3- فقدان القدرة على استشراف المستقبل والتخطيط له، لدى القائمين على التعليم، حتى معلمي المعلم، ثم التحسب له والإعداد له، والصبر والدأب على ذلك؛ لأنهم يرسمون بذلك مستقبل أبنائهم ووطنهم.
4- تدمير منزلة المعلم الأدبية والمادية، وهو أهم محور في المنظومة التعليمية، إذ تلقى منزلته تحقيراً وتدنياً مقصوداً حتى من المؤسسات الاجتماعية، والسياسية، حتى يبقى متدنياً في عطائه لطلابه، وحتى يبقى بعيداً عن التجويد في أدائه مع أهم عنصر في صناعة المستقبل؛ وهو الإنسان الذي هو الطالب في المدرسة والجامعة.
5- عسكرة التعليم، وطبقيته، بإقحام التعليم الخاص وترويجه على حساب دور الدولة في خدمة التعليم والاستثمار فيه (في الإنسان وليس المال)؛ مما أفقد الطالب والمجتمع كله الثقة في الدولة كمؤسسة، في رعايتها لأخطر مجال في المجتمع وهو التعليم.
حلول للنهوض بالتعليم
واستعرض د. الجارحي عدداً من الحلول للنهوض بالمنظومة التعليمية في بلادنا، كان أهمها:
1- إن التعليم لا بد أن يكون بعيداً عن الأهواء السياسية التي تتولى السلطة في المجتمع؛ لأن التعليم إنما يكون مرتبطاً دائماً بفلسفة المجتمع الذي يعيش فيه، وبعقيدة أهله وقيمه ومبادئه التي ينتمي إليها، بغض النظر عما تعتقده الأحزاب السياسية الحاكمة؛ لأنه إن كان هكذا سيبقى ألعوبة في يد كل نظام سياسي، أو حزب حاكم، وبالتالي سيظل التعليم عرضة للتخبط باستمرار، وبعيداً عن التطور، والنهوض بالمجتمع، لينافس ويواكب التغيرات العالمية الحادثة.
2- وضوح التصور، وإخلاص الضمير وصدق العزم في التطبيق، من أهم ما ينبغي توفره في القائمين على عملية التخطيط للتعليم في المجتمع، والعاملين به أيضاً، وما لم يكن هناك تصور واضح قائم على أسس صحيحة فلا قيام لبناء تعليمي صحيح في المجتمع مهما بذل أو أنفق المعنيون به.
وشدد الخبير التربوي على أن العملية التعليمية هي شأن اجتماعي حيوي يخص كل أفراد المجتمع، ولذا كان من الضروري أن تتضافر كل أجهزة الدولة، وتتكاتف من أجل تحقيق التصور الصحيح للتعليم، والتأكيد على الأسس الصحيحة التي يرتكز عليها شأن التعليم؛ من معلم مُصَان الكرامة، ومحتوى تعليمي صادق قوي علمياً، وإدارة جديرة بالثقة والاقتداء، وعلى رأس هذه الأجهزة الجهاز الإعلامي بكل صوره، والمؤسسة الدينية، وبقية الأجهزة ذات الصلة التي لا تخلو من علاقة بالقطاع التعليمي، كالمواصلات، والسياحة والآثار، والقطاع الصحي وغيره.
ومن لبنان، يقول عضو المجلس التنفيذي لنقابة المعلمين اللبنانيين إيهاب نافع: إن كلمة «اقرأ» كانت أول كلمة نزلت على قلب نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي قال: طلب العلم فريضة على كل مسلم، في إشارة واضحة لكل مسلم حتّى يوم القيامة إلى أهمية التعليم، ومع ذلك نجد العالم العربي قد قصّر في هذه الفريضة.
ويضيف نافع أننا نجد ارتفاعاً حاداً بنسبة الأمية في عالمنا العربي رغم الدعوات المتكررة إلى ضرورة الاهتمام بالتعليم ورفع مستواه في مدارسنا ومعاهدنا، ولكن بقيت هذه الدعوات هدفاً بعيد المنال؛ إذ يشهد العالم العربي عموماً وفي لبنان خصوصاً تراجعاً حاداً في مستوى التعليم، لا سيما وأن جائحة «كورونا» وما تبعها من تعليم عن بُعد أنتج جيلاً جاهلاً بأبسط مبادئ التعليم.
وواصل، فصرنا نجد طلاباً لا يتقنون القراءة والكتابة، فضلاً عن العلوم الأخرى، ثم كانت الأزمة الاقتصادية التي دفعت بالكثيرين إلى البحث عن مصادر الرزق لتغطية مصاريف عائلاتهم مبتعدين عن التعليم، كما أن لبنان يعاني من أزمة اقتصادية حادة أدت إلى كلفة عالية في التعليم دفعت بالكثيرين إلى هجرة المدارس والجامعات مرغمين.
ويصف نافع الحل الوحيد لأزمة التعليم، من وجهة نظره، بأنه يكمن في تنبه الحكومات العربية إلى سلبيات تراجع التعليم على أوطانهم، وما ينتج عنه من ارتفاع مستوى الجريمة وتراجع كبير في ازدهار البلاد وتقدمها، وتخصيص ميزانية ضخمة للتعليم؛ إذ بالتعليم ترتقي البلاد وتتطور، واعتبار الأموال التي تصرف على التعليم ليست ترفاً، كما يتعامل معها الكثير من سياسيي بلادنا، معطين الأولوية لمشاريع لا تغني عن التربية والتعليم.
وكذلك إهمال الحكومات للغة العربية، واعتماد تعليم المواد العلمية باللغات الأجنبية، كل ذلك أدى لضعف مزدوج باللغة والعلوم، وكذلك عدم تحديث المناهج من سنوات طويلة أدى إلى عدم مواكبة التقدم العلمي المتسارع، فلم يعد الكثير من الطلاب يجد أن التعليم المدرسي، وأحياناً الجامعي، يقدم له الحاجات المستهدفة من التعليم.
كما وجدنا أن العالم الغربي لم يعد يجد في دعم التعليم في بلادنا هدفا له إلا إذا كان مرتبطاً بنشر مفاهيم الشذوذ والانحراف الأخلاقي البعيد عن قيمنا وديننا وتقاليدنا، وليس بمقدور الحكومات اعتماد هذه المناهج المشروطة لما ينتج عنها من دمار لقيم الدين والأسرة وصلاح المجتمع.
وشدد عضو المجلس التنفيذي لنقابة معلمي لبنان على أهمية نشر الوعي الثقافي بما يدفع حركات المجتمع المدني إلى التنبه إلى عظيم الخطر الناتج عن إهمال التعليم ومؤسساته، والتعويض عن ذلك بتبني التعليم بكافة مراحله، وحث الحكومات على الاهتمام بالتعليم وتخصيص ميزانية تليق به، والعمل الجاد والسريع على تحديث المناهج بما يتناسب مع التقدم العلمي الملحوظ ولا يتعارض مع قيم مجتمعاتنا الإسلامية، ولا شك أن ذلك مقدور عليه إذا توفرت الإرادة الحقيقية الصادقة لذلك.
الحرب وانقسام المجتمع
ومن اليمن، يؤكد الإعلامي اليمني وديع عطا أن ظروف الحرب انعكست بشكل مباشر على العمل التعليمي في اليمن، شأنها شأن بعض الدول العربية الهشة، لكنها أكثر تأثراً نظراً لحالة الانقسام السياسي التي دخلت فيها البلاد نتيجة انقلاب المليشيا المدعومة من إيران وسيطرتها على أكبر المحافظات سكاناً.
ويضيف عطا: ففي مناطق سيطرتها تعمل مليشيا الحوثي المدعومة من إيران على تطبيق المنهج التعليمي، وفرضت أساليب دخيلة لتشييع النشء والطلاب؛ بل إنها تتعمد تجهيل الأجيال ليسهل التحكم فيهم وتشكيلهم، تماماً كما فعل أسلافهم من طغاة بيت حميد الدين حكام المملكة المتوكلية التي سقطت بثورة 26 سبتمبر 1962م.
وفضلاً عن تشويه المنهج التعليمي، تعمد المليشيا إلى تسهيل نجاح الطلاب عموماً مع ضمان درجات التفوق للمجندين في صفوفها، حيث يتم تنجيح من يسمونهم «الطلاب المجاهدين» حتى دون حضورهم.
وأشار الإعلامي اليمني إلى أن المعلومات تؤكد أن الحرب في اليمن حرمت أكثر من 3 ملايين طالب من حق التعليم لأسباب عديدة، أهمها دمار مدارسهم وعسكرتها، إضافة لرفض بعض أولياء الأمور المنهج الطائفي الذي تفرضه المليشيا في مناطق نفوذها، وعجز كثير منهم عن الرسوم والإتاوات المفروضة من الحوثيين باسم «المجهود الحربي».
كما أن حوالي 90 ألف معلم ومعلمة محرومون من رواتبهم منذ سبتمبر 2016م، وقد اضطر آلاف المعلمين لممارسة مهن وأعمال لا تليق بهم بشكل مؤسف ومحزن.
ويمكن القول: إن الوضع المعيشي لا يختلف كثيراً لدى المعلمين في مناطق الحكومة الشرعية، خصوصاً أن حالة تدهور الريال اليمني انعكست على حياة الجميع، وصار راتب المعلم لا يتجاوز في المتوسط أكثر من 80 دولاراً فقط.
النظام السوري دمر التعليم
ومن سورية، تؤكد د. سمية حاج نايف، الأكاديمية والناشطة السورية، أن التعليم في عالمنا العربي يعاني مشكلات لا حصر لهان وفي سورية على وجه الخصوص التي دمرها نظام بشار الأسد، وشرد الملايين خلال عدوانه عليهم، كما أن منظومة الدكتاتورية العربية عمقت تلك المشكلات دون إيجاد حلول لها، حيث يشيع الجهل والأمية في ظل الاستبداد.
وتضيف د. سمية أن الربط بين الحرية والديمقراطية والارتقاء بمستوى التعليم أمر طبيعي، وكذلك الربط بين الدكتاتورية وتدهور التعليم، الذي يجسده عالمنا العربي في ظل الحكم الاستبدادي اليوم، ففي الحقيقة لدينا مشكلات في منظومة التعليم الحكومية، وفي المناهج، وفي المعلم، وحتى في الطالب، وفي الأدوات والأفكار، والدوافع الماديَّة والمعنويَّة للمعلم.
وتشير إلى أن واقع الحال في أغلب الدول العربية يختلف تماماً عن كل الأنظمة التعليميَّة واللوائح الإداريَّة المعمول بها ضمن التعليم الرسمي، وهو واقع يتفاوت من دولة إلى أخرى، ويصل إلى أدنى مستوياته في سورية، وتكاد تكون كل هذه المشكلات موجودة ومتشابكة في سورية لتعطي أدنى مرتبة في التعليم في الوطن العربي حالياً.
أمَّا عن الحلول، فترى د. سمية أنها تتراوح بين حدَّي الإصلاح التدريجي والتغيير الجذري، فالتغيير التدريجي نحو الأفضل ينجح في بعض الدول العربية الغنيَّة من خلال:
أولاً: التحديث بإدخال كل ما يستجد من آليات وأفكار متطورة من دول العالم المتطور بشكل سريع.
ثانياً: التطوير بمعنى زيادة حجم وقدرات المؤسسات التعليميَّة والعاملين فيها، ومثال ذلك تحويل بعض الجامعات الجيدة إلى أكاديميات، ويحتاج ذلك إلى مبان وتجهيزات ضخمة، وإلى خبراء متخصصين ومستشارين ومراكز أبحاث ودورات خاصَّة جداً للمدرسين والمعلمين، والعناية بالقدرات العلميَّة والتربويَّة لهم، وهذا بلا شك يتطلب ميزانيَّة ماليَّة ضخمة من الدولة المعنيَّة، وقد تكون هذه الأمور موجودة في بعض البلدان العربيَّة، ولكن ينقصها التفعيل الصحيح، ومحاربة الفساد فيها.
ثالثاً: تخصيص ميزانيَّة ماديَّة وخدماتيَّة للمعلمين والمدرسين كأن يكون راتب المعلم والمدرس من أعلى الرواتب في الدولة، وأن تسخَّر خدمات الدولة لهم بشكل خاص، ليستعيد المعلم مكانته العالية المطلوبة في المجتمع، ولا يخفى علينا أنَّ من يريد تدير مجتمع ما يبدأ بتدمير التعليم والقضاء.
أما التغيير الجذري الشامل فلا ينفع معه لا تحديث ولا تطوير ولا رد اعتبار، يحتاج إلى تغيير شامل لنظام الحكم بأكمله ومثال ذلك نظام الحكم في سورية.
ضياع السيادة الوطنية
ومن تونس، تقول الإعلامية والناشطة السياسية عايدة بن عمر: إن واقع التعليم في العالم العربي يمس السيادة الوطنية بسبب تبعية منظومة الحكم للمستعمر الذي يهندس التعليم في بلادنا العربية وفق مصلحته، ناهيك عن فشل الدولة في إدارة منظومة التربية والتعليم وسط وهْم إصلاح التعليم في تونس الذي يشرف على تطويره خلال 6 عقود مضت مستشارين فرنسيين.
وأضافت بن عمر: هذا علاوة على تهالك البنية التحتية من مدارس ومعاهد وتردي خدماتها، حيث تعاني الكثير من المدارس من تداعي الأبنية للسقوط وانعدام الماء والكهرباء، خاصة في المدارس الريفية، وضعف رواتب المعلمين وحملات التشويه للمعلمين في الإعلام والتلفزيون والدراما وتحقير جهودهم؛ ما أدى إلى زيادة التسرب المدرسي الذي تجاوز 100 ألف تلميذ يتدربون سنوياً من المدارس التونسية.
وأشارت عايدة إلى الخطر الذي يقضي على المدارس الوطنية بمنظومة التعليم الخاص الخاضع لمناهج فرنسية وبريطانية استعمارية تكاليفها باهظة، أو مدارس خاصة أقل كلفة ولكنها أقل جودة.
ودعت إلى هندسة منظومة تربوية وتعليمية جديدة تخدم مصالح الأمة العليا، وتمكنها من التحرر من قيود منظومة الجهل، وأن يبني الفرد نفسه بنفسه بأحد المسارات التالية، أو الجمع بما تيسر له، منها: الدورات العلمية المكثفة أو الحقائب التدريبية والورش التطبيقية وغرف المتابعات للورش الخارجية المفتوحة عبر الإنترنت، وفي مختلف التخصصات، إضافة للسياحة العلمية للشباب النابغ، والهندسة العكسية حتى تكسبنا الكثير من الوقت والجهد والنمذجة.
تغريب المناهج وإفراغها من محتواها
ومن الأردن، يقول د. محمد سعيد بكر، عضو رابطة علماء فلسطين في عمَّان: إن من أهم هذه التحديات التي تواجه التعليم في الأردن:
1- تغريب المناهج وإفراغها من محتواها المنسجم مع ثقافة الأمة ودينها وعقيدتها.
2- غياب المعلم القدوة صاحب الرسالة وتحول التعليم إلى مجرد وظيفة يتنافس عليها المعلمون لأهداف مادية.
3- حالة الشتات النفسي التي يعيشها الطلاب بسبب تعدد وتنوع قنوات «السوشيال ميديا».
4- ضعف البيئة التعليمية الجاذبة.
5- التنافس المحموم بين التعليم الحكومي والخاص على جذب الطالب باعتبار أنه سلعة مربحة لا باعتباره جسداً وروحاً وعقلاً.
6- غياب روح الإبداع مع وجود الروتين اليومي القاتل.
7- ضعف أساليب التقييم والتقويم، واعتماد الحفظ كوسيلة وحيدة أو غالبة لاكتشاف طاقات ومهارات الطلبة.
واقترح د. بكر عدداً من الحلول لهذه التحديات، أولها الإرادة الصادقة والقوية والأمينة على أجيال الأمة، تبدأ بإصلاح المناهج وتأهيل المعلمين وتحفيز الطلبة وتطوير الأنشطة، وإيجاد البيئات التربوية الفاعلة.
وهذا كله يتطلب بذلاً من الجهد والوقت والمال، ويسبق ذلك كله شجاعة كافية للانفكاك عن منظومة العولمة وسلطة الثقافة الغالبة.