لم تأت نتائج عملية «طوفان الأقصى» التي نفذتها حركة المقاومة الإسلامية (حماس) ضد الاحتلال «الإسرائيلي»، في 7 أكتوبر 2023م، من فراغ، ولم يكن صمود الفلسطينيين للشهر الثاني على التوالي مجرد صدفة أمام واقع مؤلم ومأساوي.
قراءة مجريات الأحداث تؤكد أن برامج التربية لدى المقاومة الفلسطينية كانت تؤشر، قبل عقود، نحو صناعة عنصر بشري مقاوم صلب، مر نظرياً وعملياً بمراحل بناء، وإعداد، وصقل، وتطوير، كانت في المجمل بمثابة عملية تخليق سليمة لجينات المقاومة، وتأهيل واقعي لتحمل تبعات الكفاح ضد الآلة الصهيونية الغاشمة.
وتستند الفصائل الفلسطينية، وفي القلب منها «حماس»، إلى وجود حاضنة شعبية لها في المقام الأول، توافرت عبر برامج إيمانية وتربوية وتعليمية واجتماعية واقتصادية، كمقدمة لأي عمل نضالي ضد الاحتلال، وفق آليات وتروس تنقل نبض المقاومة إلى الشارع الفلسطيني، وتحقق حالة من اللحمة بين الجانبين.
ولا شك في أن اهتمام «حماس» بالتربية الروحية والإيمانية لعناصرها، والمتعاطفين معها، وفق فكر جماعة الإخوان المسلمين، المعني في المقام الأول بتربية الفرد، والأسرة، وأسلمة المجتمع، ساهم في خلق حالة من الصحوة الإسلامية داخل المجتمع الغزاوي، ربما تفسر جانباً من الصمود القائم من قبل سكان القطاع في وجه حرب إبادة يشنها العدو وداعموه.
التعليم أولاً
طورت المقاومة الفلسطينية من آلياتها حتى تصل إلى النتيجة الماثلة أمام العالم في عام 2023م، وكان التعليم هو البداية، عبر إقرار برامج تعليمية جديدة، تتيح ترسيخ فكر المقاومة في الأجيال الناشئة.
مشروع «الفتوة» في مدارس غزة الثانوية للفتيان، كان لبنة رئيسة ضمن برامج «حماس» لصناعة «طلائع التحرير»، عبر صياغة هوية جديدة للطلاب، ترتكز في المقام الأول على بث روح الانتماء للوطن، وغرس معاني الرجولة والفروسية والشجاعة.
ربما يرى البعض في المشروع الذي يحمل عنوانه دلالات لافتة عند العرب، محاولة «عسكرة» جيل جديد، لكن الخطوة التي بدأت في العام 2012م، واستهدفت 100 ألف طالب في المدارس الثانوية، كانت بمثابة طوق نجاة للمراهقين والشباب من أجندات غربية رعتها السلطة الفلسطينية، تقوم على تغيير الهوية الثقافية للنشء، وتقبل السلام مع المحتل.
البرنامج الذي كان مطبقاً في عهد الحكم المصري لقطاع غزة قبل عام 1967م، وألغاه الاحتلال «الإسرائيلي»، شمل أهدافاً نظرية وعملية، وتضمن تدريبات بدنية، ومهارات عسكرية، ودروساً في الدفاع المدني، والإسعافات الأولية، وقواعد المرور، ومكافحة المخدرات، والوعي الأمني والميداني.
بموازاة ذلك، اعتمدت حكومة «حماس»، في العام 2012م، قراراً يقضي ببدء تدريس اللغة العبرية كمادة اختيارية في المرحلة الثانوية؛ ضمن سياسة «اعرف عدوك»، ومحاولة فهم الآخر، واستكشاف مواطن قوته ومكامن ضعفه.
يقول د. زياد ثابت، وكيل وزارة التربية والتعليم في غزة سابقاً، لإذاعة «DW عربية»: إنه يجب على الطلبة والمجتمع أن يعرفوا ما يدور ويحاك في الثقافة والتفكير «الإسرائيلي»، وأن يعرفوا ما يدور في وسائل الإعلام «الإسرائيلية» لمعرفة العمق الإعلامي الموجه وأبعاده، ويعني ذلك أنه يجب أن نعرف لغة عدونا.
توجهات أخلاقية
في مسار ثان ومواز، كانت المساجد منبراً تربوياً وإيمانياً وأخلاقياً مؤثراً، يقف وراء تخريج أفواج من أبناء المقاومة وقد تشبعوا فكرها ومبادئها، وهي مكمن قوة «حماس»، خاصة مع تنوع نشاطات المساجد ما بين فكري وسياسي وثقافي بالإضافة إلى الرياضة، وهي تستهدف فئات وأجيالاً مختلفة من الفلسطينيين وكذلك من الجنسين على حد سواء، بحسب موقع «المونيتور».
وتستهدف نشاطات المسجد أربع فئات عمرية، هي: «البراعم» الذين تقل أعمارهم عن 12 عاماً، و«الأشبال» الذين تتراوح أعمارهم ما بين 12 و15 عاماً، و«الناشئون» ما بين 16 و18 عاماً، أما الفئة الرابعة فتتكون من الشباب والرجال الذين تزيد أعمارهم على 18 عاماً.
وتشرف لجان متعددة على النشاطات المختلفة داخل المسجد، منها اللجنة الدعوية، واللجنة الاجتماعية التي تقدم المساعدات للأسر الفقيرة، واللجنة الرياضية التي تتولى مسؤولية النشاطات الرياضية المختلفة.
عزز من نجاح هذا المسار قرار «حماس» في العام 2012م، بحجب المواقع الإباحية، وفرض إجراءات لحماية المراهقين والشباب من الوقوع في قبضة عصابات المخدرات، وشبكات التجسس المدعومة من الاحتلال.
وقد ساهم ما صاغته حكومة غزة من منظومة قانونية وهيكل قضائي فعال، في أسلمة المجتمع الفلسطيني إلى حد كبير، وتمدد نزعة اجتماعية محافظة، حيث لا وجود تقريباً للنساء السافرات، ولا للمشروبات الكحولية في أي مكان عام، بحسب ناثان براون، أستاذ العلوم السياسية والشؤون الدولية في جامعة جورج واشنطن.
خلف الأسوار
هناك برامج أخرى، كانت ذات تأثير في بناء الشخصية الفلسطينية، وتربية المقاتل الصلب الذي يعد العماد الرئيس لفصائل المقاومة، التي استفادت كثيراً من سنوات الأسْر في سجون الاحتلال «الإسرائيلي»، حيث الواقع التربوي الموجود في المعتقل كفيل بتخريج إنسان مدعوم بكم هائل من العلم والتربية والخبرات والتجارب.
غدت السجون مراكز تربية وإعداد تخرج للشعب الفلسطيني الكفاءات والنماذج، وكان جلال هذا الإنجاز مرتبطًا بالمعركة المستمرة خلف الأسوار، وقد تطور الأداء الفلسطيني فيها عبر السنين الطويلة من الأسْر، ليضع قواعد حياة مثالية داخليًا، ويفرض معادلات صراع بالحد الأدنى مع السجان الصهيوني، وكان العمل التربوي والثقافي إحدى ركائز العمل داخل الأسر، بمعانيه ومراميه، فحصد الأسرى بل الشعب الفلسطيني فيه خيرًا كثيرًا للقضية والإنسان، بحسب دراسة بعنوان «الواقع التربوي والثقافي داخل قلاع الأسر»، صادرة عن مركز «حضارات للدراسات والأبحاث السياسية والإستراتيجية».
يقول الباحث علاء عيسى، في ورقة بحثية بعنوان «التربية الداخلية لدى أسرى حماس بين الخصوبة والإنتاج»، نشرت العام 2020م: إن السجون تحولت إلى منحة بدل المحنة، رغم أنها أماكن أرادها الاحتلال كي تكون معاول هدم للحركة، ومدافن للأحياء، فإذا بها أصبحت أسرة تربوية، ومعمل إنتاج وتأهيلاً للأجيال القادمة، وتبشيراً بعودة الجيل الرباني القائم على المبادئ السامية، والأخلاق الجيدة، كي تصبح السجون مساجد لحلقات القرآن، ومدارس للدعوة، وجامعات علمية، وندوات ودورات تقنية.
المنظومة التربوية داخل سجون الاحتلال اعتمدت ثلاث حزم، هي: الدورات الشرعية، القائمة على العقيدة والأصول والتفسير والسيرة، والدورات الإدارية والخططية، والدورات الإنسانية والعلمية المستندة إلى التحليل السياسي والاقتصاد والفلسفة والتاريخ، ضمن برنامج تربوي ملزم يومياً، يستفيد من تركيبة الأسرى وتنوعها التنظيمي واختلاف تجاربها وثراء تخصصاتها، بما يؤهل الأسير، حال إطلاق سراحه، لخدمة منظومة المقاومة، والتعاطي مع مستجدات الواقع الفلسطيني والعربي والدولي.
ربما يبدو ذلك جلياً في النقلة النوعية التي حققها يحيى السنوار، قائد «حماس» في غزة، الذي قضى 24 عاماً من حياته في سجون الاحتلال، ونال الحرية ضمن صفقة الإفراج عن الجندي «الإسرائيلي» جلعاد شاليط عام 2011م.
إن السنوار نموذج للمقاوم الصلب، الذي تربى على مقاومة الاحتلال، وصقل قدراته خلف الأسوار، فتعلم اللغة العبرية، وتعمق في الثقافة «الإسرائيلية»، وانشغل بقراءة الصحف العبرية، والكتب الصادرة عن شخصيات «إسرائيلية» بارزة، حتى أصبح خبيراً في الداخل «الإسرائيلي»، ومتمرساً في فهم انفعالات وأساليب العدو «الإسرائيلي»، فضلاً عن كونه أسيراً على صلة بحركات فلسطينية مختلفة، واعياً بثوابت القضية الفلسطينية، ومتطلبات الأسرى، وأهداف المقاومة؛ الأمر الذي جعل منه، بعد مراحل عدة من التربية الجهادية والعلمية، أحد أبرز صناع «طوفان الأقصى».