كاتب المدونة: د. علي جمعة العبيدي
احتلت القضية الفلسطينية ومنذ أن حصلت ليبيا على استقلالها في بداية خمسينيات القرن العشرين، مركز الاهتمام الرسمي والشعبي؛ حيث تُظهر الكثير من الشواهد العملية أن القضية الفلسطينية كانت ولا تزال من بين أهم المحددات التي تحكم علاقات ليبيا الدولية وفي سياستها الخارجية، وأكثر من سبعين عاماً مرّت على استقلال ليبيا كان فيه شعبها كغيره من الشعوب العربية والإسلامية متفاعلاً دوماً بكل ما يملك وبكل ما يستطيع مع كل التطورات التي مرت بها القضية الفلسطينية بما فيها من تقلبات وتغيرات، في توجهاتها ومساراتها وما صاحب ذلك من اختلافات في المواقف ومستويات الفهم وفي كيفية التعاطي مع كافة أبعادها خاصة منها تلك المتعلقة بالجوانب السياسية.
ليبيا، وإن كانت ليست من الدول المتجاورة حدودياً مع الدولة الفلسطينية، مما يفرض عليها بالضرورة أن تتفاعل لزاماً مع كل التطورات المرتبطة بملف قضيتها، كما هي الحال مع ما يسمى بدول الطوق، إلا أن ليبيا مثَّلت طرفاً فاعلاً ومؤثراً في الكثير من المحطات التي مرت بها القضية الفلسطينية، كان ذلك في فترة الحكم الملكي التي استمرت ثمانية عشرة عاماً، وكانت فيها رسميًا وشعبيًا ترفض بقوة أي شكل من أشكال الاعتراف والتطبيع والتقارب مع الكيان الصهيوني على الرغم من أن ليبيا كانت تُصنف سياسيًا في ذلك الوقت ضمن المعسكر الغربي الداعم والراعي الرسمي للكيان «الإسرائيلي».
وبعد سقوط النظام الملكي وطوال 42 عاماً فترة حكم القذافي (1969 – 2011م)، وبعد أن اقتصر الدور الليبي في القضية الفلسطينية في فترة الحكم الملكي على تقديم الدعم السياسي والمادي، تحولت ليبيا إلى فاعل رئيس في الكثير من العناصر الحاكمة في القضية الفلسطينية، فاعلة بقدر ما فيها من الأدوار والمحطات الإيجابية التي ما زالت تذكر حتى وقتنا الحاضر، إلا أنها لم تخلُ من الكثير من الاجتهادات والممارسات التي نُظر إليها وعُدت من بين أسباب شق الصف الفلسطيني الواحد وتأخير ترميم الخلافات التي نشبت بين أعضائه.
لكن في المجمل، يمكن القول بأريحية: إن الدبلوماسية الليبية وإن كانت قد استطاعت أن تحقق نجاحاً معتبراً بعد سنوات قليلة من حدوث التغيير السياسي في ليبيا عام 1969م عندما تمكنت بحلول عام 1973م من إقناع كل الدول الأفريقية المستقلة في ذلك الوقت بأن تقطع علاقاتها مع «إسرائيل»، إلا أن الإخفاق كان هو العنوان الدائم للدبلوماسية الليبية تجاه القضية الفلسطينية، اللهم إلا بعد النجاحات المحدودة جداً في إصدار بعض القرارات الدولية الصادرة حول القضية الفلسطينية تتفق في جزئيات منها شيئاً ما من الرؤية الليبية.
ولعل أهم العوائق التي كبلت حركة الدبلوماسية الليبية في دعم ومساندة القضية الفلسطينية، وجود إجماع دولي على مرجعية القرار رقم (242) الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، إضافة لسوء العلاقات السياسية الليبية في زمن حكم القذافي مع الدول العربية المتحكمة فعليا في مفاصل القضية الفلسطينية.
ومع سقوط نظام القذافي في فبراير 2011م، انعكست الفوضى وعدم الاستقرار الذي تمرّ به الدولة الليبية في ضعف شديد ومحدودية في التأثير في كثير من علاقاتها الإقليمية والدولية وفي فاعلية دبلوماسية سياستها الخارجية، وضعية كانت القضية الفلسطينية مرآة انعكست فيها كل تلك الحالة من الضعف والمحدودية في التأثير عندما غاب الدور الليبي تمامًا عن ممارسة أي أدوار ذات قيمة في التطورات المتلاحقة والمتسارعة التي عرفتها القضية الفلسطينية في السنوات العشر الأخيرة، فيما عدا التعبير الرسمي عن التأييد لكل المواقف الداعمة للقضية الفلسطينية في المحافل الإقليمية والدولية، لا يكاد يكون هناك أي خصوصية واضحة في الموقف الليبي من القضية الفلسطينية بداية من عام 2011م، وصولاً إلى التطور الأخير الأهم والأكبر الذي تمر به القضية في عملية «طوفان الأقصى» وما ترتب عليها من تداعيات مفصلية.
ليبيا كدولة منذ عام 2011م، وهي تشترك في ذلك مع الكثير إن لم يكن جُلّ الدول العربية والإسلامية، ليس لها أي جهود ذات قيمة فيما يسمى بمسار التسوية السلمية الفلسطينية، كما أنها تفتقر كذلك لهذا الدور في مسار المصالحة الفلسطينية – الفلسطينية، وغائبة تماماً عن دائرة الفعل والفاعلية في التوجهات المرتبطة بما يسمى بموجة التطبيع مع «إسرائيل»، كما أنها لم يُعرف لها أي موقف لافت من العدوان المتكرر الذي تعرض له قطاع غزة في أعوام 2012، 2014، 2021م، أو من انتفاضة القدس بين عامي 2015 و2017م، وكذلك من الانتهاكات «الإسرائيلية» للمسجد الأقصى المبارك بين عامي 2019 و2023م، أو مما يعرف بـ«صفقة القرن» التي أعلن عنها في عام 2020م.
مما يسمح بالاعتقاد بدرجة عالية من اليقين أن حالة عدم الاستقرار والأزمة المتنامية التي تمر بها الدولة الليبية بعد عام 2011م، قد انعكست سلبياً على الموقف الليبي تجاه التطورات المتلاحقة التي تمر بها القضية الفلسطينية، صحيح أن هذا الموقف لم يكن من القوة بمكان قبل عام 2011م، بحيث يمكن وصفه بأنه كان محورياً في صناعة مساراتها واتجاهاتها، ولكن لا يمكن إنكار أن الدور الليبي كان حاضراً بدرجة ما في الخطوات التي كانت الدول المعنية بالملف الفلسطيني تتخذها تجاه هذا الملف.
ولا ينبغي أن نتغافل أن ليبيا في العقود الأربعة التي سبقت ثورة عام 2011م، كان لها حضور لافت في إدارة ملف القضية الفلسطينية، يجعل من أي متابع للموقف الليبي من القضية الفلسطينية يقر بأن هذا الحضور بعد ثورة فبراير 2011م أقل ما يقال فيه: إنه لم يعد كما كان لافتاً حتى لا نقول غائباً، ومع قناعتنا بأن ضعف الدور الليبي من القضية الفلسطينية مقارنةً بأدوارها السابقة إنما يرجع للحالة العامة التي تمر بها الدولة الليبية ككل، فإنه من الصعب فهم المبررات التي تجعل من بعض القوى الليبية الرئيسة المؤثرة المتحكمة في المشهد السياسي الليبي كما هو الآن تُقدِم على اتخاذ خطوات متقدمة، ولو على استحياء في طريق البدء في تكوين علاقات مع الكيان «الإسرائيلي» كانت حتى وقت قريب، يُعد حتى مجرد التفكير فيها، من أشد المحرمات رسمياً وشعبياً.
صحيح أن حالة الاقتراب هذه قد أعيقت بموجة عارمة من الرفض الشعبي، لكنها في مجمل الأحوال تعطي انطباعاً بأن حالة الضعف التي تمر بها الدولة الليبية الآن، ومع كل حالة الاستعصاء الذي تُواجهه عملية انتقالها الديمقراطي السلمي، تجعل من التنبؤ بالتوجهات المستقبلية المتوقعة للموقف الليبي من القضية الفلسطينية من الصعوبة بمكان.
لكن في المقابل، فإن التطور الأخير الذي شهدته القضية، ممثلاً في عملية «طوفان الأقصى»، أبانت بوضوح أن فلسطين وكما كانت أولوية عند الأجداد، عندما هبَّ الكثير منهم للمشاركة في معارك الجهاد الأولى في أربعينيات القرن الماضي، يُظهر الموقف الشعبي الليبي الداعم والمؤيد بقوة لعملية الطوفان أن القضية الفلسطينية لا تزال حاضرة في الوجدان الشعبي الليبي، وأن القوى الليبية الرئيسة المؤثرة لا يستطيع أي منها أن يتخذ أو يتجرأ أن يتخذ أي موقف لا يحظى بدعم وتأييد الشعب المتجه بكل ما يملك نحو دعم وتأييد كل ما له علاقة بـ«طوفان الأقصى».
_______________
سفير ليبيا في إيران.