تبدو التجربة الواقعية الحية لنموذج الخلافة الراشدة كتطبيق عملي لتنزيل القيم والأفكار التي جاء بها الإسلام، فالنبي صلى الله عليه وسلم كان إماماً ورسولاً يتنزل عليه الوحي ولا يمكن لمسلم معارضته أو مخالفته.
بينما نموذج الخلافة الراشدة نموذج أقامه بشر مؤمنون استلهموا القيم الحضارية التي جاء بها القرآن الكريم وما سمعوه وشاهدوه مع النبي صلى الله عليه وسلم، ومن ثم فهو نموذج قابل للتطبيق مرة أخرى بدرجات متفاوتة.
بل يمكن القول: إن جميع الدول ونماذج الخلافة على مدار التاريخ الإسلامي تحاكم إلى نموذج الخلافة الراشدة فنحكم عليها أو على بعض عهودها باقترابها أو ابتعادها من نموذج الخلافة الراشدة؛ لذلك وجب علينا التعاطي بكل دقة مع التفاصيل التي تمكننا من فهم وتحليل الأسس الحضارية والقيمة التي قامت عليها هذه الخلافة.
دين ودنيا
إذا كنا نتحدث عن الخلافة الراشدة، فنحن نتحدث عن نموذج فريد للدولة، فهي ليست دولة ثيوقراطية بالتأكيد، ولكنها تُعنى بالبعد الروحي والإيماني لرعاياها، وفي الوقت ذاته دولة مؤسسات وتنظيمات سياسية واقتصادية وعسكرية معنية بكافة شؤون العمران، بمعنى أن الخلافة الراشدة تقوم على ركيزتين أساسيتين؛ هما الدين والدنيا معاً، بحيث لا يمكن اختزال أحدهما، بل هما في حالة من التشابك العضوي الحيوي.
الخلافة الراشدة معنية برسالة عقدية ترتكز على الإيمان بالله واليوم الآخر، فقضية التوحيد هي الغاية الكبرى للخلافة، بحيث تعمل جميع المؤسسات لخدمة هذه الغاية، بدءاً من المؤسسة السياسية، وهي تضع الشروط الواجب توافرها في الخليفة للمؤسسات التعليمية التي ترتكز على فهم وتدبر كتاب الله تعالى.
وحتى التوسعات والفتوح العسكرية التي تهدف أن تكون كلمة الله هي العليا، إنها رسالة الخيرية للإنسان في كل مكان بغض النظر عن جنسه وعرقه ولونه وطبقته، هذه الفتوح التي قامت لتحرير عقل الإنسان من الخزعبلات والخرافات وتحرير ضميره من الأثقال والقيود، وكان أي تجاوز من القادة العسكريين يخدش هذه الغاية ويحملها من المصالح الدنيوية ولو نزراً يسيراً يواجَه بعقوبات قاسية.
وفي الوقت ذاته، كانت الحرية الدينية مكفولة للجميع، ولعل موقف الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه من عجوز نصرانية يدعوها للإسلام فتأبى، فيشهد الله على ذلك، نموذج للركيزتين معاً؛ حيث الركيزة الأولى العقدية نشر التوحيد وتقديم الخير للجميع حتى لو كانت سيدة مسنة لن تضيف للإسلام شيئاً، والركيزة الثانية الدنيوية حيث المساحة الواسعة للحرية الدينية.
بل يمكن القول: إن الحرية الدينية أمر ديني ودنيوي معاً، والحقيقة؛ إن كل الأمور الدنيوية تعود على نحو مباشر أو غير مباشر لتوجيه ديني من القرآن والسُّنة النبوية، لكن التفصيل فيها وتأطيرها بأطر محددة هو الجهد الذي قامت به الخلافة الراشدة.
قيم مرجعية
كثيرة هي القيم والأسس التي قامت عليها الخلافة الراشدة في جميع مناحي الحياة وجميع شؤون الدولة سياسياً واقتصادياً وإدارياً واجتماعياً، ولكن هنا نشير لبعض القيم المرجعية أو أمهات القيم التي تبدو الحاجة ماسة إليها، ربما لأن هذه القيم مشوشة لدى البعض، أو ربما لأن جذورها لم تتعمق في تربتنا الحضارية، فلو تحدثنا عن قيمة المساواة والعدل مثلاً، وهي قيمة مرجعية كبيرة، لن نجد خلافاً حولها أو أهميتها.
ولكن إذا تحدثا عن قيمة الحرية سواء الحرية السياسية أو الحرية الاقتصادية، فلن نجد لها ذات الأهمية في مجتمعنا ونحن نريد أن نرى واقعنا المعاصر في مرآة الخلافة الراشدة، يكفي في هذا الصدد أن نذكر أن قاتل عمر بن الخطاب كان أن سبق وهدده، وعلى الرغم من ذلك لم يتخذ عمر إجراء استثنائياً حياله، بل إن مقتل ثلاثة من الخلفاء الراشدين يؤكد أن قيمة الحرية الشخصية للمواطنين تجاوزت ما يمكن أن نطلق عليه أمن النظام الذي قد تتم قمع كثير من الحريات بسبب الحفاظ عليه.
وموقف عثمان بن عفان من أبي ذر يمكن فهمه في سياق الحرية الاقتصادية للمواطنين، طالما أن ركن الزكاة لم يمس، بحيث تترك مساحة الصدقة أو الاستثمار أو الادخار للحرية الشخصية.
ومن القيم المرجعية التي نحن بأمسّ الحاجة لإعادة إنتاجها قيمة الانفتاح الحضاري على الآخر.
ويمكننا التفريق بين الانفتاح الحضاري والانفتاح الثقافي، ففي الانفتاح الثقافي نُدخل عادات وتقاليد وربما معتقدات الآخر في نسيجنا الثقافي، وهذا خطر داهم ولا شك، ولكن الانفتاح الحضاري يعنى نقل العلوم والمعارف، بل النظم الإدارية كالدواوين والمؤسسات، وهذا يؤدي لتلاقح الحضارات.
ولا شك أن الخلافة الراشدة انفتحت على النظم الحضارية المختلفة، واستفادت من التفاعل مع الحضارات العريقة في بلاد فارس ومصر، وهو ما مهّد الطريق للنهضة الحضارية الكبرى في العالم الإسلامي في مراحل لاحقة، أما فيما يتعلق بالانفتاح الثقافي فكان الأمر يوضع على ميزان الشرع أولاً.
إدارة الأزمات
إن أكبر الدروس التي نتعلمها من الأسس الحضارية والقيمية للخلافة الراشدة أسس إدارة الأزمات، فالخلافة الراشدة واجهت أزمات عديدة وفتناً من الداخل والخارج ومخالفين وصلوا لحد رفع السلاح وحرب أفكار وبدع؛ نجحت في حل بعضها، وتركت قيماً وسنناً في مواجهة أخرى، فالتيار العلماني الذي يوجه سهام نقده للخلافة الراشدة لما حدث من أزمات وفتن لا يدري أنه يناقض نفسه، فنحن لم ندَّعِ أن الخلفاء الراشدين كانوا مقدسين لا تتم مراجعتهم، وجميعهم أعلنوا ذلك بوضوح بالغ أن للأمة حق محاسبة الحاكم إذا انحرف، فإذا انحرف أفراد أو حتى فريق من الأمة وهو يستخدم هذا الحق كانت القيم الراشدة في مواجهة هذا الانحراف منارة من منارات الهدى.
القيم الراشدة البعيدة عن أي قرارات استثنائية لحفظ النظام.. القيم الراشدة في رفض تكفير المخالف الذي اشتط في الأفكار ما دام لم يخرج من دائرة التوحيد.. القيم الراشدة في مواجهة الأزمات الاقتصادية دون يأس أو قنوط، ورفض أي امتياز بسيط للحاكم في ظل هذه الأوضاع.
القيم الراشدة في جعل وحدة الأمة هدفاً أعلى وأسمى من أي صراع.. القيم الراشدة في الأزمات كما تمثلها الصديق في أزمة الردة، وتمثلها الفاروق في أزمة عام الرمادة، وتمثلها عثمان في رفقه وصبره مع أضخم حركة معارضة للحكم الراشدي، وتمثلها عليّ في التعامل مع فرق وجماعات متناحرة ومؤذنة بنهاية الخلافة الراشدة وهو يرسخ القيم والثوابت التي تحفظ الدين من العبث الفكري الذي تثيره هذه الجماعات.