إن المعادلة القرآنية المألوفة التي تجمع بين الصلاة والزكاة ليست إلا صيغة معينة من معادلة أخرى «ثنائية القطب» أكثر تكراراً وأكثر عمومية وهي «آمن وافعل خيراً».
التي يمكن اعتبارها الأساس الجوهري للأوامر الدينية والأخلاقية والاجتماعية في القرآن؛ هذه المعادلة تحدد العمودين اللذين لا بديل لهما واللذين يقوم عليهما الإسلام كله، ولعله من المناسب النظر إلى هذه المعادلة باعتبارها أول صيغة للإسلام وأرفعها، فالإسلام بكامله يقع تحت صيغة «الوحدة ثنائية القطب».
إن النطق بالشهادتين الذي يعلن به الشخص اعتناقه للإسلام يؤدى أمام الشهود لما ينطوي عليه هذا العمل من معنيين؛ الأول: الانضمام إلى جماعة روحية ولا ضرورة فيه لوجود شهود، ولكن الشخص الذي اعتنق الإسلام رجلاً كان أو امرأة ينضم إلى جماعة لها جوانبها الاجتماعية والسياسية التي تتضمن التزامات قانونية وليس فقط التزامات أخلاقية.
والمعنى الثاني: أن يلحق إنسان بدين ما لا يستلزم وجود شهود، حيث إن هذه علاقة بين الإنسان وربه، فمجرد عقد النية أو اتخاذ قرار باطني كاف تماماً بهذا الخصوص.
والالتحاق بدين في وجود الآخرين به عنصر من عناصر الإعلان، وهو غير ضروري من وجهة نظر الدين المجرد، ولكن الإسلام ليس ديناً مجرداً.
في الصوم أيضاً جانب مشابه بلا شك، فقد اعتبر المسلمون الصوم خلال شهر رمضان مظهراً لروح الجماعة؛ ولذلك فإنهم حسّاسون لأي انتهاك علني لهذا الواجب.
فالصيام ليس مجرد مسألة إيمان.. ليس مجرد مسألة شخصية تخص الفرد وحده، وإنما هو التزام اجتماعي، هذا التفسير للصيام كشعيرة دينية غير مفهوم عند الأديان الأخرى.
إن الصيام الإسلامي وحدة تجمع بين التنسك والسعادة، بل حتى المتعة في حالات معينة، إنه أكثر الوسائل التعليمية -طبيعية وقوة- التي وضعت موضع الممارسة الإنسانية إلى يومنا هذا.
فالصوم يُمارس في قصور الملوك وفي أكواخ الفلاحين على السواء، في بيت الفيلسوف وفي بيت العامل، وأعظم ميزة فيه أنه يمارس ممارسة حقيقية.
إن الثنائية التي يتميز بها الإسلام واضحة في أمور أخرى كثيرة، انظر إلى هذه الآية من القرآن: (لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَـكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ) (المائدة: 89).
وهكذا ترى أن الأعمال الاجتماعية المفيدة في العالم الخارجي لها أولوية عن الأعمال الروحية الخالصة، فالأخيرة تطبق فقط كبديل عندما يستحيل أداء الأول، وفي هذه الآية كان الصيام بمثابة الندم، كفارة ودعاء بطلب المغفرة.
تنطبق الثنائية على مصادر الإسلام أيضاً، حيث يوجد للإسلام مصدران أساسيان؛ هما القرآن والسُّنة النبوية، يمثلان معاً الإلهام والخبرة، الخلود والزمن، تفكير والممارسة، الفكرة والحياة، والإسلام طريقة حياة أكثر منه طريقة التفكير.
وتشير جميع التفاسير القرآنية إلى أنه بدون السُّنة النبوية؛ أي بدون حياة النبي صلى الله عليه وسلم يتعسر فهم القرآن فهماً صحيحاً، إنه فقط من خلال فهمنا لحياة الرسول صلى الله عليه وسلم يعرض الإسلام نفسه كفلسفة عملية أو خطة شاملة للحياة كلها.
_______________________
المصدر: كتاب «الإسلام بين الشرق والغرب».