بجانب الحكمة الإلهية من صيام شهر رمضان، والفلسفة الإسلامية له وآثاره التي تعود على الصائم، سواء الروحية منها أو الجسدية، في رأيي أن غير بعيد عن هذا تظهر مساحة شخصية أخرى لا تضيق، لدى كل منا في نظرته للصيام وفهمه حكمة هذه العبادة، ومدى امتزاجه معها روحاً وفهماً وسلوكاً، كل منا على قدر انعتاق روحه.
ولست هنا لأستعرض فهمي البسيط للصيام، بل لأعيد القراءة في فلسفة اثنين من أبرز المفكرين المسلمين، التي منحتني مساحة أوسع في فهم الصيام، وأضافت لي في الانسجام أكثر مع الصيام كونه بوابة للانعتاق الروحي، ومن هنا فأستعرض من خلال هذه السطور كيف نظر على عزت بيجوفيتش كمفكر، ود. مراد هوفمان، المفكر الألماني المسلم لعبادة الصيام.
مظهر لروح الجماعة
ففي فهمه للصيام، يرى المفكر ورئيس البوسنة والهرسك الراحل على عزت بيجوفيتش أن صوم شهر رمضان لدى المسلمين هو مظهر لروح الجماعة، وبالتالي فالمسلمون حسّاسون لأي انتهاك علني للصيام.
فالصيام في رأي بيجوفيتش، كما يروي في كتابه «الإسلام بين الشرق والغرب»، ليس مجرد مسألة إيمان، وليس مجرد مسألة شخصية تخص الفرد وحده، وإنما هو التزام اجتماعي، وهذا التفسير لتلك الشعيرة الدينية في الإسلام غير مفهوم عند الأديان الأخرى.
ويرتقي الصوم الإسلامي في فلسفة علي عزت بيجوفيتش إلى كونه وحدة تجمع بين التنسك والسعادة، بل حتى المتعة، ويعتبره أكثر الوسائل التعليمية التي وضعت موضع الممارسة الإنسانية الحقيقية إلى يومنا هذا.
فالصوم يُمارس في قصور الملوك وفي أكواخ الفلاحين على السواء، في بيت الفيلسوف وفي بيت العامل، وهذا ما يجعل منه أعظم ميزة ذلك أنه ممارسة حقيقية.
اختبار الجَلَد
أما المفكر الألماني المسلم د. مراد هوفمان، فيرى أن الصوم معيار لأن يقيس الإنسان مدى قدرته على أن يكون سيد نفسه أم عبداً لها، بل يعد الصيام هو اختبار لجلَد المسلم.
حتى إنه أورد حديثه عن الصيام في كتابه «رحلة إلى مكة» بعنوان «اختبار الجلد»، وتحدث عن تجربته الأولى مع الصيام، التي كانت بعد بضعة أشهر من اعتناقه الإسلام، عندما حلّ شهر رمضان، الذي يكشف أنه كان ينتظره بشيء من القلق والخوف باعتباره اختبار صعب لجلد المسلم وقوة تحمله، ويجسد قمة وعيه وصحوته.
ويقول: ففيه -أي شهر رمضان- ينبغي لي أن أمتنع مدة 29 أو 30 يوماً من الفجر إلى غروب الشمس عن الطعام والشراب والتدخين ومعاشرة الزوجة، ولكن مع ممارسة عملي كالمعتاد.
فالصوم في نظر هوفمان مثل كل العبادات في الإسلام يشتمل على مكونات مادية وأخرى معنوية، لا تنفصل عن بعضها بعضاً، وينطوي الصوم إلى جانب بعده المادي على بُعد روحاني يصير من دونه مجرد حركات بهلوانية، فشهر رمضان شهر معظم لما له من أهمية في تاريخ العالم فلم يشهد رمضان غزوة «بدر» ذات الأثر الحاسم في بقاء وتثبيت المسلمين الأوائل فحسب، وإن الأكثر أهمية من ذلك أن فيه ليلة القدر التي بدأ فيها نزول الوحي بالقرآن الكريم.
وصوم رمضان فرض على المسلمين، ومن يعدونه عبادة بوصفه أحد أركان الإسلام الخمسة التي لا تحتاج إلى تسويغ مقنع، فالمسلم بوصفه عبداً لربه يصوم لأنه أمره بالصوم، فالطاعة هنا واجبة، ويستطيع المرء أن يكتشف بسهولة أن هذا الفرض لم يُفرض لله وإنما فرض من الله للناس.
ويكشف هوفمان أنه اعتاد في رمضان أن يفقد من وزنه ما بين 5 و8 كيلوجراماً، ولكنه يرى أن ذلك ليس نقصاناً سلبياً للوزن، بقدر ما هو اقتراب من الوزن المثالي.
والصوم الإسلامي في نظره يحقق غاية الباحثين عن الرشاقة والصحة الجسدية منذ أن أصبحت رشاقة القوام زيّاً سائداً، فإن الصوم يفي بهذا الغرض، وهو أيضاً على سبيل المثال يؤدي إلى إذكاء الإحساس الاجتماعي حيث يشعر الصائم مرة واحدة على الأقل في السنة بما يشعر به من يُرغم على الصوم في العام كله بسبب ما يعانيه من شح في الغذاء أو المال.
ويوضح المفكر مراد هوفمان ما أهم آثار جانبية للصوم في رمضان عليه، فيقول: «ولعل أهم أثر جانبي للصوم في رمضان فيّ أنني أستطيع -في رمضان- أن أختبر ما إذا كنت ما أزال سيد نفسي أم إنني صرت عبداً لعادات تافهة، وما إذا كنت قادراً على التحكم في نفسي أم لا، وأتمنى أن يكون فرحاً وليس غروراً ذلك الذي أشعر به بعد انتهاء آخر أيام رمضان أي عند صلاة المغرب من إنني استطعت بعون الله أن أصومه».