سبقت الإشارة إلى كون المدافعة هي القاعدة النظرية لمفهوم المقاومة، تأسيسيًا واستمرارًا، وبما يبين كون المقاومة غاية في ذاتها، وأن نتائجها تراكمية، وتعاضدية على عرض المكان وطول الزمان، وبما لا يخلي الفرد من مسؤوليته المباشرة في الصراع القائم في الأرض، وهي بهذه الاعتبارات كلّها سُنّة الله تعالى في تنظيم التناقضات البشرية.
تتجلّى الحكمة في هذه السُّنة، أولاً في الحفاظ على الجنس البشري، وفي الحفاظ على القوام المادي للأرض، كما في قولة تعالى: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة: 251)، فحفظ الأرض، بمعنى المنع من إفسادها الكامل بسبب الطغيان البشري، كما في دلالة الآية: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (الروم: 41)، أو الحفاظ على استمرار الجنس البشري من الهلاك، يقوم على المدافعة، بدفع الله الناس بعضهم ببعض، أو كما في قراءة نافع وأبي جعفر ويعقوب: (وَلَولا دِفَاعُ اللَّهِ النّاسَ بَعضَهُم بِبَعضٍ)، باستخدام صيغة المفاعلة «دِفَاعُ»، للدلالة على المبالغة في الدفع.
واللافت أنّ هذا المعنى جاء ختامًا لقصة داود عليه السلام مع جالوت؛ أي في سياق القصة التي انتصرت فيها القلّة العطشى التي عانى صفّها الخذلان والتثبيط، على الكثرة المُدججة بأسباب القوّة المادية، كما في الآية: (فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللّهَ مُبْتَلِيكُم بِنَهَرٍ فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 249)، وهو ما يعني أن الدور الأساس في الصراع يتحدّد بالقيام بالواجب، وهو ما يقتضي حالة إيمانية تحيل ثمرة القيام بالواجب إلى يوم القيامة، وبما تتأكد فيه؛ أي حين القيام بالواجب في الصراع، قيمة الصبر.
لقد كانت الإشارة إلى حفظ الأرض من الفساد، بدفع الله الناس بعضهم ببعض، في ختام الحديث عن قيام فئة قليلة عطشى بواجبها، وإذا كانت هذه الفئة قد انتصرت بالفعل الانتصار الدنيوي في المعركة، وترتب على ذلك مسار سياسي واجتماعي؛ بإيتاء داود الملك، كما في الآية: (فَهَزَمُوهُم بِإِذْنِ اللّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَـكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) (البقرة: 251)، فإنّ الإشارة بالغة الدلالة، حين الحديث عن حفظ الأرض من الفساد؛ كانت عقب بيان ذلك الدور الذي قامت به تلك المجموعة الصغيرة التي لا يُتوقع منها الانتصار، وهو ما يعني أنّه من حيث القيمة الجوهرية، لا صغير ولا قليل، في التأثير في المسار الإنساني العام، وأن أثر المجموعات الصغيرة يتعاظم حينما ترتكس البشرية ويغلب عليها الفساد، ومن ثم، لما كانت أمة سيدنا النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم، وارثة الرسالة الخاتمة، كان لا بدّ ضرورة من استمرار طائفة منها تقوم على الحق، تحول دون اكتمال دائرة الفساد من حول الجنس البشري، وبما يمنع الجنس البشري من الاضمحلال والهلاك إلى الوقت الذي يشاؤه الله؛ «لَا يَزَالُ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ، حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ».
حين النظر إلى القضية الفلسطينية بوصفها قضية شديدة ظهور العدالة، وبالغة وضوح مظلومية أهلها، وكيف أن الاستعمار الصهيوني فيها تأسس انبثاقًا من اختلال العالم، وطغيان القوى الكبرى، كالإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية في حينه، والأمريكية اليوم، وكيف أن ذلك كان في لحظة انهيار إسلامي وعربي، وكيف أن ذلك التأسيس استند فيما استند إليه، إلى أساطير مهينة للعقل، فإن قيمة هذه القضية في الإضاءة على خلل العالم، وتقويم أوضاعه، تتضح بنحو صارخ، ولعل ذلك بعض ما يُستفاد من معاني الآية التي تذكر فلسطين بوصفها مباركة للعالمين؛ (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 71).
تصبح القضية الفلسطينية بهذا الاعتبار قضية إصلاح للعالم، لا قضية خاصة بأهلها فحسب، لكن المفاعيل الإصلاحية لها لا تتأتى إلا من قيام أهلها بواجبهم إزاء قضيتهم، وهم إذ يفعلون ذلك، إنما ينهضون بواجب إصلاح البشرية، لأنهم يقومون بواجبهم في ظرف من الاختلال الكاسح في العالم، مما يعني شعورًا ثقيلاً بالخذلان والوحدة والغربة، الأمر الذي ينبغي أن يَردّهم إلى القيم الإيمانية، أي الارتباط بالله وانتظار الفوز التام يوم القيامة، وبما يجعل لقيمة الصبر الموقع المركزي في حركتهم كلها.