كثرت الهجرة للغرب، وتكونت الجاليات العربية والإسلامية وسط تلك المجتمعات الغربية، حيث لا يوجد نظام قضاء إسلامي يحتكم للشريعة الإسلامية، ومن المسلمات من تنفصل عن زوجها فتضطر للاحتكام لقانون وضعي، فما مدى مشروعية الاحتكام لقوانين وضعية خاصة في مسألة الطلاق؟
وتوضيحاً لتلك المسألة الشائكة، نعرض فتوى الشيخ محمد تقي العثماني(1) بهذا الشأن، وبعض الفتاوى الأخرى:
أولاً: حكم فسخ نكاح المرأة من قبل قاض غير مسلم:
يرى الشيخ محمد تقي العثماني أن فسخ عقد الزواج في هذه الحالة غير معتبر شرعاً، وذلك لقوله تعالى: (وَلَن يَجْعَلَ اللّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً) (النساء: 141)، وقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً) (النساء: 144)، وقال الإمام أبو بكر الجصاص تحت هذه الآية: «واقتضت الآية النهي عن الاستنصار بالكفار والاستعانة بهم والركون إليهم والثقة بهم، وهو يدل على أن الكافر لا يستحق الولاية على المسلم بوجه»(2)، وجاء في «المجموع شرح المهذب»: ولا يجوز أن يكون القاضي كافراً ولا فاسقاً ولا عبداً ولا صغيراً، وقال ابن قدامة: «ولا يولى قاض حتى يكون بالغاً عاقلاً مسلماً حراً عدلاً»(3).
وحاصله أن شروط الشهادة من الإسلام والعقل والبلوغ: شروط لصحة توليته، ولصحة حكمه بعدها، وعلى هذا فلا يجوز لمسلمة أن ترجع إلى محكمة الكفار لفسخ نكاحها من زوجها، ولو فعلت لا ينفسخ النكاح شرعاً.
ثانياً: حكم فسخ نكاح المسلمات من قبل المراكز الإسلامية:
وعلى هذا، فهل يجوز للمراكز الإسلامية في المجتمعات غير الإسلامية أن تقوم مقام القاضي الشرعي في فسخ النكاح من أزواجهن لأسباب شرعية؟ والجواب للشيخ العثماني: أن الأصل في النكاح أن عقدته بيد الزوج، فلا يجوز للمرأة أن تطلق نفسها أو تفسخ عقدها من زوجها في الأحوال العادية، ولكنَّ هناك أحوالاً يجوز لها فيها أن ترفع أمرها إلى قاض شرعي، فيفسخ هو نكاحها من زوجها بولايته العامة، وذلك لأسباب معروفة على اختلاف الفقهاء فيها، مثل: أن يكون الزوج مفقوداً أو عنيناً أو مجنوناً أو متعنتاً لا ينفق على زوجته أو يلحق بها ضرراً لا يتحمل، وعند الحنفية والشافعية والحنابلة أن يقع الفسخ من قبل قاضٍ شرعي.
وأما مذهب المالكية، فإنهم ذهبوا إلى أن جماعة المسلمين يمكن أن تقوم مقام القاضي الشرعي في فصل الخصومات فيما بين المسلمين حيث لا يوجد قاض شرعي ترفع إليه القضايا.
يقول العلامة الدسوقي: «اعلم أن جماعة المسلمين العدول يقومون مقام الحاكم في ذلك، وفي كل أمر يتعذر الوصول فيه إلى الحاكم، أو لكونه غير عدل»(4)، وهذا يدل على أن جماعة المسلمين تقوم مقام القاضي، ليس في بلاد غير مسلمة فقط حيث لا يوجد القاضي الشرعي، بل يجوز لها أيضاً في بلاد مسلمة يوجد فيها قاض مسلم ولكنه ليس بعدل.
وأما عن رأي المجلس الأوروبي للإفتاء والبحوث فيقول، على صفحته الرسمية، في فتواه الخاصة بتطليق القاضي غير المسلم: «الأصل أن المسلم يرجع في قضائه إلي قاض مسلم أو من يقوم مقامه فيما يتعلق بقضايا الأحوال الشخصية، غير أنه بسبب غياب قضاء إسلامي في هذا المجال يتحاكم إليه المسلمون في غير البلاد الإسلامية، فإنه يتعين على المسلم بتنفيذ قرار القاضي غير المسلم بالطلاق؛ لأنه يعيش في ظل قانون البلاد التي يقيم فيها، وهو بذلك راض ضمناً بما يصدر عنه، ومن ذلك التزام بأن هذا العقد لا يحل عروته إلا القاضي، الأمر الذي يمكن اعتباره تفويضاً من الزوج جائزاً له شرعاً عند الجمهور ولو لم يصرح بذلك بناء على القاعدة الفقهية: «المعروف عرفاً كالمشروط شرطاً»، وتنفيذ أحكام القضاء في هذه الحالة لازم من باب جلب المصالح ودفع المفاسد وحسماً للفوضى».
ونختم بفتوى أخرى في هذا الشأن للشيخ يوسف القرضاوي في سؤال عن امرأة تعيش في إنجلترا وتريد الطلاق، وذلك في برنامج «الشريعة والحياة»، على قناة «الجزيرة»: «تلجأ إلى التحكيم بحكمين من أهلهما أو إلى المركز الإسلامي أو الجالية الإسلامية ويكون حكمهما نافذاً، فإن استمر الشقاق، فإن لم يكن فحكم القاضي غير المسلم ينفذ، وإلا فقد حكمنا الرجال في النساء يظلموهن ولا منفذ ولا مخرج».
ثالثاً: شروط جماعة المسلمين التي تقوم مقام القاضي في البلاد غير المسلمة:
وبناء على قول المالكية ومن وافقهم من العلماء المعاصرين، فيرى الشيخ العثماني أن المراكز الإسلامية في بلاد غير المسلمين ينبغي لهم أن يكونوا جماعة تقوم بهذه المهمة، ولكن يجب أن تراعي في ذلك جميع الشروط اللازمة لقبول حكمهم من الناحية الشرعية، وفي ضوء ما ذكره الفقهاء المالكية، تتلخص هذا الشروط فيما يأتي:
– عدد جماعة المسلمين: واختلفت أقوال علماء المالكية في تعيين الأشخاص الذين تتكون منهم الجماعة القائمة مقام القاضي، فذهب بعضهم إلى أن أقل عدد الجماعة ثلاثة رجال، قال الشيخ محمد عليش: «وتعبير المصنف كغيره بجماعة يقتضي أن الواحد لا يكفي، وكذا الاثنين»(5)، وذكر بعضهم أن أقل عدد الجماعة اثنان، قال الدردير في «الشرح الكبير»: «وأراد بجماعة المسلمين اثنين عدلين فأكثر»، والأحوط ألا يقل عدد الجماعة عن الثلاثة للخروج من الخلاف، ولأن عند النقص في العدالة يجب تكثير العدد، حتى عندما يقول بالاكتفاء بالواحد والاثنين.
– أوصاف جماعة المسلمين: أما مؤهلات أعضاء جماعة المسلمين، فلم يذكر فقهاء المالكية منا إلا العدالة، ولم يشترطوا أن تتكون من العلماء دائماً، ولكن من البديهي أن هذه الجماعة لا بد لها من معرفة الأحكام الشرعية المتعلقة بالقضية المرفوعة أمامها، فإن كانت الجماعة تحكم في المناكحات، فلا بد لها من معرفة الأسباب الشرعية للفسخ، والطرق الشرعية للإثبات، وما يتعلق بذلك من المسائل، وعلى هذا فمن المناسب جداً أن تتكون هذه الجماعة من علماء الشريعة، وإن لم يتيسر العدد المطلوب منهم، فليكن أحد أعضائها من العلماء، ولا أقل من أن يتعلم الأعضاء كلهم ما يحتاجون إليه من الأحكام الشرعية عن طريق علماء يوثق بهم، أو ألا يحكموا إلا بعد الاستفتاء من الفقهاء.
– العمل عند الاختلاف: فإن تكونت الجماعة من ثلاثة رجال، فهل يجوز أن يصدر حكمها بالأغلبية؟ لم يتعرض فقهاء المالكية لهذه المسألة، والظاهر في عباراتهم أن حكم جماعة المسلمين لا يصدر إلا باتفاق الأعضاء وهو مقتضى قياس قولهم الحكمين، قال الباجي: «ولو حكم جماعة فاتفقوا على حكم أنفذوه وقضوا به جاز»، قاله ابن كنانة في «المجموعة»، ووجه ذلك: «أنهما إذا رضيا بحكم رجلين أو رجال، فلا يلزمهما حكم بعضهم دون بعض»(6).
– سلطة جماعة المسلمين في فسخ النكاح: وفي ضوء ما سبق، فإن المخلص الصحيح للنساء اللاتي يردن فسخ نكاحهن في بلد غير مسلم، أن يرجعن إلى جماعة مكونة لهذا الغرض من قبل العلماء والمراكز الإسلامية في ذلك البلد، وأن هذه الجماعة تتولى جميع الإجراءات الشرعية اللازمة في هذا الصدد، وبعد اتخاذ الخطوات اللازمة للتأكد من أن هناك سبباً شرعياً يبرر الفسخ، فإنه يجوز لها فسخه، أو تطلق المرأة بالنيابة عن زوجها، أو تحكم بموت الزوج عند كونه مفقوداً، على ما هو مبسوط في كتب الفقه، ويعتبر حكمها نافذاً من الجهة الشرعية، ويجوز للمرأة أن تنكح زوجاً آخر بعد انقضاء العدة، وحتى يتم الاعتراف بالفسخ قانوناً، فيجوز للمرأة بعد انفساخ نكاحها من قبل جماعة المسلمين أن ترفع أمرها إلى محكمة تلك البلاد، تحصل منها على حكم الطلاق أو الفسخ، وليس لكونه فسخاً شرعياً، بل تفعل ذلك تفادياً للمشكلات التي يخشى منها عند عدم الاعتراف القانوني بفسخ نكاحها من الزوج السابق، هذا والله أعلم.
_________________________
(1) هو محمد بن تقي بن محمد شفيع بن محمد ياسين عليّ، أحد علماء السُّنة والجماعة، ولد عام 1943م، في قرية ديوبند في محافظة سهارنفور الهندية، في بيت مشهور بالعلم، حيث تولى والده الشيخ المفتي محمد شفيع التدريس والفتوى فيها 12 عاماً، التحق بمدرسة دار العلوم التي أنشأها والده وتلقى فيها العلم باللغتين الفارسية والأردية.
(2) أحكام القرآن للجصاص (2/ 291)، طبع لاهور.
(3) المغني، ابن قدامة،
(4) حاشية الدسوقي على الشرح الكبير (2/ 519)، باب النفقة.
(5) منح الجليل، الشيخ عليش (2/ 385).
(6) المنتقى، الباجي (5/ 227).