كاتبة المدونة: رولا القطَّاوي (*)
التخاذل لغة: فعل خماسي لازم تَخَاذَلَ، يَتَخَاذَلُ، مصدر تَخَاذُلٌ، نقول: تَخَاذَلَ القَوْمُ وَأَخَذَ كُلٌّ مِنْهُمْ طَرِيقَهُ: أي خَذَلَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً، تَخَلَّى كُلٌّ مِنْهُمْ عَنِ الآخَرِ، ولعلّ المعجم لم يكنْ مُنصِفًا في تعريف ماهيَّة التخاذل كما نشعر به اليوم، لم تذكر المعاجم أنَّ التخاذل عارٌ يرتديه جارٌ، وجمرٌ لظاه صارم، وأمَّة حِماها في غار حِراها.
أمَّا التخاذل اصطلاحًا: هو حالة لا مثيل لها من الضعف والخوار والتكاسل عن مناصرة جَمعٍ شعبيّ متمثِّلٍ بشعب أعزل محاصر بحرًا وجوًّا وبرًّا، التَّخاذل حالة تمرُّ بها الأمَّة اليوم تُعلِنُ فيها استسلامها لواقع السواد وإفلاسها قيميًّا وعقائديًّا، وهذا – بالضرورة – يُنبِّئ عن تخاذليَّة واضحة في مواجهة ظلمات العقل وخلجات القلب الذي يعيش في سبات عميق منذ زمن بعيد.
وانطلاقًا من أبجديَّات الحياة؛ فإنَّ الكينونة ترتكزُ على ركنين أساسيَّين؛ الأوّل يتمثَّل في الوعي، والثاني يتمثَّل في العمل، والوعي بمفهومه الواسع هو فَهمٌ ونفيٌ وإدراك، أمَّا العمل حركةٌ وجهدٌ وتحييد، لذلك من المهمّ أن نُدرك ماهيَّة القضيَّة ونعي تفاصيلها ومجرياتها كخطوة أولى عند المبادرة لدعم أيّ قضيّة كانت، ذلك من باب إثبات أحقّيّتها بأنْ تكون قضيَّة.
بالمقابل نستحضر مفهوم العجز الذي يظنّه الكثيرون حالة قدريَّة يكون فيها المرء أضعف من تغيير المشهد بالمُجمَل، إذْ يستحيل فيه إقامة مقتضيات العمل الواجبة؛ وبعد أدلجة العقل والمنطق تتحوَّل إلى عاهة مستديمة من الخوار في المحضر والجوهر، والأجدر بنا أن نقول: إنَّ بعض العجز حالة اختياريَّة يُخدِّر المرء فيها نفسه لتسكين ضميره ولتستكين معه مشاعره. أجل؛ لن تُفكِّك مثلثات نجمة داوود الليلة، ولن تُصلِح العالم غدًا، ولن تُصلي في «الأقصى» بعد الغد، لكن في وسعك الكثير وإنْ كان في ظاهره قليل!
أما عن العمل ومقتضياته: العمل مُلازم الوعي، فلا يُخيل لك أنهما منفصلان؛ العمل والوعي وجهان لعملة واحدة، طالما تمكَّن الوعي؛ وُجدَ العمل، لذلك نقول: لا تبقوا سجناء للتفكير الجمعي الضبابيّ، ابتعدوا عن الآراء الضحلة، لا ترضوا بالتلقين والتلقيم، لأنَّه من المعيب أنْ تكون بالغًا عاقلًا وترمي بنفسك خارج النَّصّ؛ لتقنع نفسك بثمن بخس جزاء صمتك واستكانتك وجمود تفكيرك، راكِم من المعرفة والوعي ما ترى وتسمع، اقرأ ما مضى، وتمعَّن فيما جرى، واصنع رأيك وصوِّب رميك، ولا تقعد مع القاعدين. إنَّ تعميم مقاربة تُسوِّغ السكوت والخنوع من مدخل اللُّغة الناعمة، هذا هو عين الذلَّة، أتكلّم عن ملايين الناس الذين جرى تلقينهم الخوف بدراية. إنَّها عقدة النقص والاضطراب والركوع واليأس والمهانة..
حقيقة؛ تستوقفني مواقف كثيرة، ولكنّني أعجب من المتخاذل الجاهل بتخاذله؛ عزيزي هل تعلم أنّ تبلّد مشاعرك تجاه المحرقة تخاذل؟ هل تعلم أنّ اقتصادك في نصيحة أبناءك المُغيَّبين تخاذل؟ هل تعلم أنّ حياتك الطبيعيّة صورة من صور التخاذل؟ رفاهيتك في أوجّ المذبحة تخاذل، إظهار فرحتك ومزاجك الحسن في وقت الكدر تخاذل، هل نسيت عزيزي أنّ “المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله”، هل تغاضيت عن «مثل المؤمنين في توادّهم وتعاطفهم وتراحمهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»، أين أنت من هذا الوعي؟! إنْ كنت على قناعة بغير ذلك؛ هذا يعني أنّك منفصم عن الواقع، تعيش في متاهات الحياة غير آبه، قال الفضيل بن عياض رحمه الله: «خمس من علامات الشقاوة: القسوة في القلب، وجمود العين، وقلة الحياء، والرغبة في الدنيا، وطول الأمل»، وهذه كلها صفات تتمثَّل جليَّة في شخص المتخاذل.
ولعلّ رأس الحكمة اليوم أنْ نتموضع تموضع المكلوم؛ ونفكّر تفكير المعصوم، ونتصرّف تصرّف المأزوم، فكل جهد مبذول من أجل العدالة والخير ورفع الظلم عن المظلوم، مهما بدا لنا متواضعًا، لن يضيع.
____________________________
(*) كاتبة فلسطينية، باحثة دكتوراة في اللغة العربيّة، جامعة القيروان.