بات واضحاً منذ مطلع القرن التاسع عشر أن العالم الإسلامي يعاني مأزقاً حضارياً، كانت حملة نابليون على مصر كافية لإدراك عمقه ومدى الحاجة إلى تجاوزه، وقد تفاوتت أنماط الاستجابة له إذ نشأت 3 تيارات فكرية وأخذت في الانتشار والتمدد، وهي:
1- التيار السلفي؛ الذي تركز في اليمن وشبه الجزيرة العربية، ورأى أن التشبث بالتراث وتنقية العقيدة والممارسات الإسلامية مما شابها من تحريف كفيل بالخروج من المأزق الحضاري.
2- التيار العلماني أو التغريبي؛ الذي تشكل على يد المفكرين المسيحيين الشوام ونفر من المصريين، ورأى في محاكاة الغرب واقتفاء أثره السبيل الوحيد لتجاوز المأزق.
3- التيار الإصلاحي الذي انتشر في أنحاء العالم الإسلامي شرقه وغربه، وهو يقع بين التيارين السالفين، ويستند إلى فكرة إمكانية التوفيق أو التأليف بين القيم والمفاهيم الإسلامية وبين قيم الحداثة الغربية، وإلى هذا التيار ينتمي معظم المفكرين الإسلاميين منذ الطهطاوي إلى مالك بن نبي.
وكان لهذه التيارات الثلاثة تأثيرات على فكرة الهوية؛ إذ بينما ارتأى التيار السلفي في الحفاظ على الهوية مبرراً للتوقع حول الذات ورفض المنتج الغربي على اختلافه، على حين ضحى تيار التغريب والعلمنة بالهوية وكل ما يتصل بها من رموز وأفكار ومؤسسات ونظم في سبيل التماهي المطلق مع الآخر واللحاق بركب التنوير، أما تيار الإصلاح ممثلاً في رموزه الأوائل مثل الطهطاوي، وعبده، فإن موقفه من الهوية يستدعي التمحيص؛ لأن فكرة التوفيق بين القيم الإسلامية والتراث وقيم الغرب ومنجزاته المادية والمعنوية كان لها آثار سلبية على الهوية كما نعتقد.
تمثل عبارات خير الدين التونسي الفلسفة العامة التي آمن بها تيار النهضة لكيفية التعامل مع الغرب الوافد إلينا؛ إذ يقول في مفتتح كتابه «أقوم المسالك»: إن التقدم في البلاد الأوروبية مشاهد بالعيان وليس بعده بيان، ولذا فهو يحذر المسلمين من تماديهم في الإعراض عما يحمد من سيرة الغير الموافقة لشرعنا.
وينقل عن أحد الكتَّاب الأوروبيين قوله: «إن الممالك التي لا تنسج على منوال مجاوريها فيما يستحدثونه من الآلات الحربية والتراتيب العسكرية، يوشك أن تكون غنيمة لهم ولو بعد حين»، وهو لا يكتفي بالدعوة إلى مجاراتهم في المجال العسكري أو التقني، وإنما يفترض وجوبها: «في كل ما هو مظنة لتقدمه، سواء كان من الأمور العسكرية أو من غيرها».
سيطرت فكرة مجاراة الغرب على الإصلاحيين وكتبوا الكثير حولها وتفرع عنها فكرة أخرى هي ضرورة التوفيق بين قيم الإسلام والقيم الغربية، لكن عملية التوفيق كما مارسها الإصلاحيون تمت على أرضية الغرب ومن خلال منظوره للإسلام، ويتجلى ذلك لدى الطهطاوي الذي رغم مرجعيته الأزهرية التقليدية جعل من «الحقوق الطبيعية» التي أتت بها الثورة الفرنسية تجد جذورها في أصول الفقه فيقول:
«ما يسمى عندنا بعلم أصول الفقه يسمى ما يشبه عندهم بالحقوق الطبيعية أو النواميس الفطرية؛ وهي عبارة عن قواعد عقلية، تحسيناً وتقبيحاً، يؤسسون عليها أحكامهم المدنية، وما نسميه بفروع الفقه يسمى عندهم بالحقوق والأحكام المدنية، وما نسميه بالعدل والإحسان يعبرون عنه بالحرية والتسوية» (المرشد الأمين)، وفي هذه المقابلة نلحظ أن الغرب صار هو الأصل الذي نقيس عليه قيم الإسلام وعلومه التي صارت تابعاً لهذا الأصل.
وبصرف النظر عن النوايا الحسنة لفكرة التوفيق، فإن الطهطاوي يبدو وكأنه تماهى كلياً مع رؤى الاستشراق الكولونيالي بشأن الإسلام وتاريخه، وليس أدل على ذلك من تبنيه التفسيرات الاستشراقية لتدهور أحوال مصر عبر القرون؛ «لأنها في عهد الخلفاء كان يتولى عليها من العمال والنواب مَنْ لا يَسْلُك أكثَرُهُم في حُسْن الإدارة والتدبير سَبِيلَ الصواب.. ولما حَلَّ بها جيش الفرنساوية أَمْعَنَ النظر فيها وعَرَفَ قيمة الطرق المعاشية، وأنَّ مِصْرَ لو حُكِمَتْ بحكومة مماثلة لدول أوروبا المنتظمة لأمكن تكثير أهلها وبلوغهم إلى ثمانية ملايين مُتَمَّمَة، وأنها قَابِلَة لنمو الزراعة والصناعة والتجارة، وأن أهلها فيهم القابلية لاجتناء ثمرات العقول وفوائد المهارة» (مناهج الألباب)، وبمقتضى هذا القول يغدو تاريخ مصر وغيرها من الأمم في العصور الإسلامية سلسلة متصلة من الاضمحلال الراجع إلى الإسلام نفسه لم يقطعها سوى الاستعمار الغربي وحداثته وعندئذ أخذ مسار التاريخ مساراً تقدمياً.
وإذا كان الطهطاوي تبنى التفسير الغربي للتاريخ الإسلامي، فقد سعى محمد عبده إلى انتقاء ما يصلح من التراث الإسلامي كأساس للتوفيق بين الإسلام والغرب، ووجد بغيته في التراث المعتزلي الذي يغلب العقل على النقل، حيث ذهب في «رسالة التوحيد» إلى تبني موقف المعتزلة من قضية العدل وفي القلب منها خلق الأفعال، وأنها من ذات العبد وليست من الله، لكنه تمسك بالموقف الأشعري من قضية الذات الإلهية وصفاتها، وله كذلك موقف متردد من قضية خلق القرآن حيث ذهب في الطبعة الأولى من «رسالة التوحيد» إلى تبني الموقف الاعتزالي، لكنه في الطبعات التالية حذف الفقرة الدالة عليه بناء على نصيحة أحدهم.
أما في محاولة تفسيره للقرآن التي يعتبرها نصر حامد أبو زيد البذرة الأولى لمشروع القراءة المعاصرة لأنه كما يقول: «قام بتأويل كل ما ورد في القرآن الكريم عن الجن والشياطين بأنها القوى النفسية والغرائز النفسية المحركة للشهوات، هذا فضلاً عن تأويله للطير الأبابيل بأنه مرض الجدري» (النص، السلطة، الحقيقة، ص 29).
أما أمين الخولي، صاحب فكرة «الدرس الأدبي للقرآن الكريم» والمشرف والمنافح عن رسالة «الفن القصصي في القرآن» التي أعدها محمد خلف الله، فقد افترض أن تأويل محمد عبده للقصص القرآني هو أول تأويل معاصر يذهب إلى أن القصص القرآني قد يكون تمثيلاً وليس وقائع تاريخية حقيقية، والمراد منه تمثيل أخلاق الجنس البشري واستعداده، لكنه سرعان ما استدرك بأن مسألة التاريخانية ربما لم تكن واضحة في ذهنه. (انظر: سلسلة مقالاته «خطوات تطورنا الفني: الفن والتاريخ»).
خلاصة ما سبق، إن رواد الإصلاح آمنوا بفكرة التوفيق بين قيم الإسلام والحداثة الغربية، وفي أثناء سعيهم للتوفيق جعلوا الغرب وقيمه هو الأصل الذي ينطلقون منه، وقاموا بعملية انتقاء لما يصلح في التراث أن يكون أساساً للوصل فحكموا بذلك على معظم التراث بعدم الصلاحية، الأمر الذي كان له تداعيات عميقة على الوعي بالذات والآخر من جهة، وعلى محاولات تطوير وتجديد المعارف الإسلامية من جهة أخرى.