في نظام قمعي شيوعي يسكن قلب أوروبا جغرافيًا، ومن داخل زنزانة مغلقة، حلقت خواطر الرئيس البوسني الأسبق والمفكر الإسلامي علي عزت بيجوفيتش، لتكون فسحته الباقية من التسلح بالحياة، وقد تذكر ما حلّ به في سجن فوتشا ما بين عامي 1983 – 1988م، وما تعرض له في عهد جوزيف تيتو، وتجول في حياته العامرة بقراءات شتى في الأدب والحياة وسفره العظيم «الإسلام بين الشرق والغرب»، مفصحاً عن تطلعاته لمسلمي البوسنة.
يستهل بيجوفيتش رحلته مع قصيدة «ريلكه» عن تساقط أوراق الأشجار في الخريف، وتساقط كل ما في الكون، لكنك ستكتشف أنه يشير لحياة البشر التي تشبه تلك الأوراق، فلا يبقى شيء غير ما تصلح به الأرض حقًا وما غير ذلك يذهب جفاء!
فرادة الإنسان والحضارة
الكتاب الذي صدرت طبعته الأولى عام 2002م في بيروت، وصدرت بترجمة جديدة قبل 10 سنوات عن «مدارات»، يؤكد أن حرية الإنسان وفرادته وكرامته هي أغلى ما يمتلك، لذا حين نتأمل رواية كونديرا «كائن لا يحتمل خفته»، سنرى سعي الجلادين لتجريد ضحاياهم دائماً من تلك النزعة التواقة للكرامة، ومحاولة إذلالهم، وهو يشير إلى أن جوهر الدين هو احترام فردية الإنسان، لهذا حرم عليه الفواحش من قتل وزنى وشرب للخمور وغيرها من الكبائر التي تحتقر أسمى ما فيه وهو إنسانيته، تماماً كما يحتقر المرء نفسه حين يتبع غرائزه وشهواته، وهي نفس الغرائز التي تخاطبها الحضارات المادية الغربية فتفرغ الإنسان من حقيقته، وهي ذات الحضارات الاستعمارية التي تنظر لغير الجنس الأبيض كدرجة أدنى من البشرية!
كان بيجوفيتش ينهي كتابة أوراقه وفي الخارج يدوي إعصار سيسحق جدار برلين ويطيح بدكتاتوريات هونيكر، وشاوشيسكو، ويقضي على حلف وارسو، ويزلزل الاتحاد السوفييتي ويوغوسلافيا، وتحول العالم لقطبية واحدة بعد أن ظل ثنائياً.
الإسلام بين الشرق والغرب
لا يمكن الاقتراب من فلسفة بيجوفيتش (1925 – 2003م) بغير التعرض لعمله الأيقوني الذي مثّل صدمة حقيقية لأعداء المسلمين، ونعني كتاب «الإسلام بين الشرق والغرب»؛ وقد ظهر في الوقت الذي كانت عصابات الصرب والكروات تمارس جرائم الإبادة المنظمة بحق مسلمي الدولة الوليدة البوسنة والهرسك المقدرين بعشرات الملايين، فراح بيجوفيتش يعري قشرة النظام العالمي البائس والأيديولوجيات الغربية الشيوعية والماركسية والليبرالية والرأسمالية، وما أشبه اليوم بالبارحة!
استطاع صديق بيجوفيتش أن يهرب نسخة من الكتاب أوائل الثمانينيات وسريعاً تمت ترجمتها بقلب أمريكا، وكان العالم يدين مذابح البوسنة ولكنه لا يحرك ساكناً، كما يفعل مع غزة اليوم.
ينحدر بيجوفيتش من أسرة بوسنية عريقة، عمل بالقانون ثم انطلق لمجال الدعوة والعمل الإسلامي، وحكم عليه بالسجن 5 سنوات في عهد جوزيف تيتو الذي استولى وحزبه الشيوعي على السلطة في البوسنة بعد الحرب العالمية الثانية 1949م، وقد وصف البعض كتاب «الإعلان الإسلامي» لبيجوفيتش الذي أنتجه مطلع السبعينيات بالدعوة للجهاد المقدس لإقامة دولة إسلامية بقلب أوروبا، فقدم للمحاكمة العاجلة وتعرض لحكم بـ14 عاماً بتهمة محاولة قلب نظام الحكم، وفي سنوات سجنه أعد كتابه «الإسلام بين الشرق والغرب».
يؤكد بيجوفيتش أن الحضارة الغربية مع ما فيها من رخاء، تفتقد للجوانب الروحية والدين، وتغرق الفرد في الملذات الزائفة، لذلك لا نستغرب من ارتفاع معدلات الإدمان والانتحار، خاصة مع النزعة الرأسمالية السائدة في الحياة التي تقوي صلة الإنسان بالسلعة، وهي حضارة تفتقد للأخلاق ومنذ قديم الزمان شرع الرومان لأنفسهم اقتناء العبيد من أفريقيا بالملايين وإذلالهم بالسخرة، وهكذا فعل الأمريكيون البيض في الهنود الحمر، أما الدول الشيوعية فليست أفضل حالاً وهي تمارس تكميم الصحف ومنع الأحزاب.
وبينما أغرقت اليهودية العالم في ماديتها، وأغرقت المسيحية العالم في روحانية لا تعترف بطبيعة الإنسان، جاء الإسلام باعتداله ليوازن العقل والروح، الدين والدولة، وقد وضع فكرة واضحة عن وحدانية الله وهي الفكرة المشتتة في العقل المسيحي، وأصبح المسجد مكاناً لاجتماع البشر للعبادة بلا وسيط بينهم وبين خالقهم، وليس قلعة للأسرار الكهنوتية.
ويمتاز القرآن ككتاب سماوي كونه يعترف بأنبياء الله ويقر بهم جميعاً، فهو يعترف بالمسيح، وبموسى عليهما السلام وغيرهما من الرسل، ويقبل الإنجيل الأصلي كتاباً مقدساً والتوراة، وهو لذلك ديانة خاتمة لكل ما جاء من وحي السماء، بل ويمنحك الإسلام قوة روحية عظيمة تكتسبها من الصلاة والصوم والحج والزكاة، مع تسليم القلب لله وحده، ولو تأملنا سنجد أن تلك الطقوس تخلق طقساً اجتماعياً يمتاز بالتراحم والتكافل والوحدة بين الأمة.
يحدثنا القرآن عن امتياز البشر عن كافة المخلوقات كونه يختار بشكل حر بين الصواب والخطأ، وهي فكرة راقت كثيراً لمؤلف الكتاب، لهذا جعل الله ملائكته المكرمين الأطهار يسجدون لأبي البشر آدم عليه السلام.
الفرار للإسلام
غادر بيجوفيتش السجن عام 1988م في وقت سمحت فيه السلطات اليوغوسلافية بتعدد الأحزاب، وترأس حزب البوشناق المسلمين الذي اكتسح في أول موجة انتخابات برلمانية، فوصل إلى رئاسة جمهورية البوسنة والهرسك أواخر عام 1990م، لكن الصرب اتهموه بنشر الفكر الأصولي وإعادة استنساخ تجربة الثورة الإيرانية، ومهدت تلك الصراعات لاندلاع حرب البلقان إبان حكم بيجوفيتش للبوسنة، وبدأت واحدة من أعنف وأبشع حروب ما بعد الحرب العالمية الثانية في أوروبا بين عامي 1992 و1995م التي راح ضحيتها مئات الآلاف من الأبرياء البوسنيين المسلمين على يد عصابات إرهابية من الصرب والكروات، بدعم أوروبا، وتوصل بيجوفيتش أخيراً وبعد ضغوط غربية مضنية لإنشاء كونفدرالية لحماية بلاده من التمزق.
ورحل بيجوفيتش عام 2003م بعد سنوات طويلة من خدمة المسلمين منذ تأسيسه لجمعية الشبان المسلمين في الأربعينيات ووصولاً لرئاسته للبلاد، وكان يؤمن بأن المسلم إما أن يغير العالم، أو سيجرفه التيار، ولا خيار ثالثاً.
ويكتب المفكر المصري الراحل عبدالوهاب المسيري: إن الثنائية الإسلامية التفاعلية لدى بيجوفيتش تتجلى في رؤيته الإسلامية لمفهوم الأمة؛ فالإسلام عنده ليس مجرد أمة بالمعنى البيولوجي أو الإثني أو العرقي، وليس حتى جماعة دينية بالمعنى الروحي الخالص للكلمة، وإنما هو دعوة لأمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، أي تؤدي رسالة أخلاقية، فلا تكريس صامتاً للتبعية المتمثلة في المنحى التعبدي الصوفي، بل نهوض بالمسؤولية الأخلاقية، من هنا يكتسب الإسلام اسمه من قوة النفس في مواجهة محن الزمان، من حقيقة التسليم لله تعالى.