المؤسسات الدينية تنقسم في مجملها إلى قسمين؛ قسم رسمي ترعاه الأنظمة والحكومات، وقسم أهلي ترعاه المؤسسات والتيارات والروابط والمجتمعات.
ومجمل القول: إن الواقع الدعوي والعلمي من حيث ضعف التأثير وغياب الفاعلية وتلاشي الثقة إلى حد كبير يؤكد الخلل الكبير الذي أصاب الجميع، وإن كان غياب المؤسسات الرسمية أكبر، وانجرافها أوسع، وذلك نظراً لارتباطها بالتوجهات السياسية التي تتبناها الدول التي تنتسب إليها تلك المؤسسات، وموقع الدين والدعوة من أولوياتها.
وقد كانت للمؤسسات الدينية في نفوس الأمة مكانة سامقة، بلغت الغاية في المحبة والتقدير والطاعة، وكمال الثقة في كل كلمة يقولونها، وأي موقف يتخذونه، بل كانت دائماً تشرئب أعناقها إليهم، خاصة حينما تضربها الأزمات، أو تحل عليهم النكبات، أو يهاجمهم عدو، حيث كانت تلك المؤسسات موئل الحكمة، وخزائن المعرفة، ووقود الثورات، ومعالم طريق الفلاح.
وكانت كلمة السر في فاعلية المؤسسات الدينية وقيامها بالجانب الرسالي على الوجه الأفضل تكمن في مساحة الاستقلالية التي كانت تملكها.
وأقصد هنا الاستقلالية المالية والاقتصادية والإدارية والفكرية، فلم يكن لأحد سلطان عليها إلا الله تعالى، وكان استغناؤها عن الحاجة إلى الأنظمة وغيرها مصدر قوة ورفعة، فيوم أن كانت تلك المؤسسات تعتمد على الأوقاف المخصصة لها بعيداً عن هيمنة الأنظمة وتسلطها؛ كانت لها الكلمة العليا، فلا مداهنة لأحد طمعاً أو خوفاً.
ومن هنا كان للعلماء الكبار والهيئات العلمائية والرتب الدينية أثر كبير، ومهابة عظيمة يخشاها الطغاة والمستبدون، وما مواقف البطولة والإباء والصلابة في الحق التي أبداها ابن تيمية، والعز بن عبدالسلام، والإمام أحمد، وأبو حنيفة وغيرهم بخافية عن أحد.
وقد أيقنت الأنظمة السياسية خاصة في العصر الحاضر أن استقلالية المؤسسات العلمية عقبة في طريق هيمنتها على الناس، حيث تُضعف من سطوتها، وتقيد من حركتها، فعمدت إلى حصار المؤسسات وحرمانها من مصادر تلك الاستقلالية بالتسلط على وقفياتها، أو زراعة منتسبين للعلم يدينون للأنظمة بالطاعة دون أن يكون لهم حظ من العلم الذي يورث الخشية، أو المسؤولية التي تستوجب الانطلاق بكلمة الله دون تردد أو تلكؤ.
وكان من نتيجة كل ذلك أن تحولت المؤسسات الدينية الرسمية إلى منظومة من مكونات الأنظمة القائمة، التي تخضع لها في سياساتها ونفقاتها وإدارتها وتوجهاتها وبالتالي تحول العاملون فيها إلى روح الوظيفة ومنهجيتها وتخلوا عن روح الرسالة وحملها.
فأنتج لنا هذا الوضع أزمة مروعة، إذ تحول العمل الدعوي والعلمي بالتدريج من حملة رسالة قائمين بالحق يحملون راية الدين فيذودون عن حياضه ويرفعون رايته، ويحافظون على ثوابته، وينطلقون مجاهدين في سبيل الله تعالى بإعلاء كلمته، وغرس قيمه دينه ومنهجياته، متحققين بوراثة النبوة؛ (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً) (الشورى: 23)، حذرين من الأطماع الشخصية والتطلعات الذاتية التي بيّن لهم النبي صلى الله عليه وسلم خطورتها فقال: «ما ذئبانِ جائعانِ أُرسلا في غنمٍ، بأفسدَ لها من حرصِ المرءِ على المالِ والشرفِ، لدِينه».
بل تحول ولاؤهم للأنظمة التي بوأتهم المناصب الدينية والألقاب المشيخية أكثر من ولائهم لرسالتهم التي يحملونها، وقيمهم التي يغرسونها، وأضحت سياسات تلك الأنظمة هي المصدر الأول للتشريع عندهم، إذ يحرمون ما حرمته، ويحللون ما حللته، بصرف النظر عن موقف الشرع الحنيف منه.
واستطاعت الأنظمة السياسية تأميم تلك المؤسسات فحولتها عن مسارها وحرمتها من استقلاليتها، فأضحت تسمح لمن تشاء منهم بالعمل والدعوة والتربية، وتحرم من تشاء وفق الأهواء والمصالح والتبعية.
فماذا حصدت الأمة من وراء ذلك؟
1- فقدت المرجعية:
بعدما تعرضت له الأمة من طغيان سياسي وإفساد واستبداد، فقَدَ السواد الأعظم منها ثقتهم بالأنظمة السياسية، فلم تعد مصدر إلهام، أو شاطئ أمان، أو مظهراً لحماية القيم الدينية، وإقامة العدالة السماوية، فلجأت الأمة إلى المؤسسات الدينية خاصة عند احتدام الأزمات، فوجدتها في غالب أمرها غائبة عن الوعي، لا عمل لها إلا تشريع انحراف الأنظمة، وتبرير تسلطها، حتى وإن كان سفكاً للدماء، أو هتكاً للأعراض، حتى قال أحدهم: لا إنكار على ولي الأمر وإن مارس الزنى على الهواء مباشرة كل يوم!
هنا أدرك الناس أن تلك المؤسسات لم تعد ملاذا آمناً، أو ناصحاً صادقاً، أو حماة للدين، فلم تعد لكلمتهم الأثر، ولا لرؤيتهم التأثير، ولا لفتواهم الثقة والتبصر.
2- بروز مرجعيات زائفة:
في ظل غياب المؤسسات الدينية عن واجباتها الرسالية برزت هيئات ومؤسسات ومدارس أهلية، بعضها كان لها الأثر البارز في المحافظة على هوية الأمة ومعالم نهضتها، وساهموا في صناعة جيل ينشد الإسلام، ويتشرف بالذود عن حياضه، وبعضها كان مصدراً من مصادر الفرقة والتنازع والتجهيل والتضليل واستنفاد طاقة الأمة في معارك زائفة، وإهدار طاقاتها وإمكاناتها في قضايا تاريخية تليدة، أو معارك فلسفية تافهة، أو مباحث كلامية بائدة، فذهبوا بالأمة كل مذهب ونصب بعضهم نفسه مرجعية للأمة على غير استحقاق، ونسب لنفسه الحق الأوحد، والصواب الأكمل فضل الطريق وأضل الناس من ورائه!
3- انتشار الغلو والتشدد:
لما غاب أهل العلم عن الميدان؛ اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فأفتوا بغير علم فضلوا وأضلوا، فظهر من يقتل الأبرياء باسم الإسلام، ومن يُكفر المسلمين لمجرد مخالفتهم له في رأي أو فكرة أو لمجرد اقتراف ذنب، أو أقل من ذلك! وأضحى كل من هب ودب يفتي في دين الله بغير علم، فانتشر الغلو والتطرف الذي أحدث ضرراً بالغاً بالأمة على المستوى الداخلي والخارجي، بل كان الغلو بوابة كبرى للتدخل الأجنبي في شؤون الأمة، بل والتسلط على مناهجها ومنابرها ومؤسساتها!
5- تصحر الأرض:
غابت المؤسسات الدينية عن أداء المهام الرسالية، وأضحت الأنشطة الدعوية مجرد مظاهر للاسترزاق، أو لحفظ ماء الوجه، أو لمجرد حصر الإنجازات لتبرير الاستمرار في المناصب الدينية، في الوقت الذي حُرمت فيه الأمة من الدعاة الصادقين والمربين المخلصين؛ اعتقالاً وتهجيراً وقتلاً، فأضحت الأرض جرداء ينعق فيه بوم الإلحاد والانحراف والانحلال!
6- انتشار مظاهر الإلحاد والانحراف:
حينما وجد الشباب أن الثقة الكاملة التي أعطوها للمؤسسات الدينية الرسمية لم تكن في مكانها، وأن المحبة والتقدير لم يكن في مكانه، ويوم أن رأوا خذلان القائمين عليها لقضايا الإسلام الكبرى، فلم يبذلوا جهدهم لحماية المقدسات، ولا لمقاومة الاستبداد، ولا للصدع بالحق في وجه الاستبداد والتضليل؛ فقدوا الثقة في العلماء، بل وفقد بعضهم الثقة في الدين نفسه! وإن ما يسمى بظاهرة الإلحاد التي انتشرت لم تبرؤ منه ذمة تلك المؤسسات التي تخلت عن قيم الإسلام وفتنة الناس.
وأخيراً، فإن الأمة ستظل تنتظر العلماء يقودونهم نحو النهوض بدينهم والتحقق بقيمهم والانتصار على عدوهم، وحسن الإقبال على ربهم، وما زالت هناك إمكانية أن ينهض العلماء خاصة في تلك الأجواء الناتجة عن «طوفان الأقصى» ليقوموا بطوفان العلماء، حفظاً للثوابت، وحماية للمحكمات، وتقديم الإغاثة الفكرية للأمة المتعطشة لدينها.
شريطة أن يتعالوا على الأطماع الشخصية، وأن يقدموا مصلحة الأمة على الظهور الشخصي، أو المقام الوظيفي، أو المكاسب المالية، أو الانتساب الأيديولوجي، وأن ينحازوا إلى الثوابت؛ فهماً وتطبيقاً، غرساً وإنباتاً وإثماراً، فإن تأخروا فإن سُنة الاستبدال لا تحابي أحداً، قال تعالى: (وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد: 38).