شكلت القوة الناعمة خطورة كبيرة على الحقائق التاريخية والهوية العربية والإسلامية وأصول الأمم وتاريخها، وساهمت السينما الأمريكية على وجه الخصوص في ترسيخ معاني الاحتلال الفكري، مستخدمة «هوليوود» ونجومها لتغيير المفاهيم الثابتة، وكتبت العديد من الأفلام الدرامية التي تلاعبت بالتاريخ وحاولت استعطاف المشاهد لتقديم صورة مغايرة لحقيقة الصهيوني منذ نشأة الحركة الصهيونية، كذلك تحسين التاريخ اليهودي منذ ما قبل الميلاد في محاولة للربط بين يهود الماضي ويهود الحاضر لفرض حقوق ليست لهم، وتاريخ لا يخصهم.
ومن أكثر شركات الإنتاج الأمريكية التي ساهمت في خدمة الفكر الصهيوني شركة «كانون الأمريكية»(1)، ومن إنتاجها المشبوه فيلم «ثمانية بعد واحد»، «ثقب النقب»، «الخروج»، «هي»، «ظل العملاق»، «يوم الاستقلال».. وغيرها من الأفلام المسخرة للدفاع عن الفكر الصهيوني.
وحتى اليوم، وبالرغم من المذابح اليومية للكيان الصهيوني في غزة ورفح، فإن المتاجرة بالاضطهاد المزعوم عبر التاريخ ما زالت جارية على قدم وساق خاصة في مهرجان برلين، وأشهر الأفلام المعنية بتلك النوعية التاريخية فيلم «قائمة شندلر» للمخرج ستيفينسبيلبرج(2).
تاريخ سينمائي صهيوني مشبوه
استخدمت الصهيونية فكرة الأفلام السينمائية منذ بداية انتشارها في بداية القرن الماضي، وكانت أهم الأفكار التي طرحتها ووضعت لها الخطط المسبقة وقدراً من الإنفاق الهائل هي فكرة حق العودة والوطن القديم، واستجاب الغرب لفكرة إنشاء وطن بديل ومصطنع لليهود ولملمتهم من شتات الأرض وغرسهم في فلسطين لحماية مصالح الغرب المستعمر في بلاد العرب والمسلمين.
ثم جاءت «سايكس بيكو» لتساهم بشكل كبير في تفتيت الوطن العربي وتيسير عملية احتلاله وغرس الكيان بينه، وتم إنشاء أهم شركات بهوليوود لتخدم على تلك الفكرة وتعمل فنياً وبنعومة على فرض فكرة أرض بلا شعب، لشعب بلا وطن، ونشطت السينما الأمريكية على وجه الخصوص على مرحلتين؛ الأولى قبل إنشاء الكيان وكان هدفها إنشاء الدولة، والمرحلة الثانية وكان الهدف منها تثبيت الدولة المزعومة(3).
وكانت الوسيلة المخادعة لتحقيق الهدف الأول تسويق عملية الاضطهاد النازي لليهود في أوروبا، علاوة على المحرقة التي تم المبالغة فيها وتضخيمها وزعم العديد من أحداثها قبل الحرب العالمية الثانية وأثناءها (1938 – 1945م)، واعتبار ذلك الاضطهاد مبرراً لأن تتضافر أوروبا لإيجاد حل في وطن بديل لهؤلاء المضطهدين.
وأما في المرحلة الثانية فاستخدمت الحروب العربية اليهودية لتصوير العرب بأنهم شعوب من الرعاع والفوضويين والعنصريين والإرهابيين، وتصوير اليهود بالشعب المسالم صاحب الحق التاريخي في الأرض والمكانة، واستطاعت السينما اليهودية أن تتفوق وتسوق لقضيتها غير العادلة، بينما أصحاب الحق العرب والمسلمون فقد كانوا متخلفين في استخدام القوة الناعمة عامة، واقتصرت الفنون العربية على تقديم جانب غير معني بتاريخ الأمة أو مستقبلها، وساعد على ذلك سيطرة اليهود على سوق الفن في بدايته وعلى شركات الإنتاج العربية وقدرة اليهود على التخفي وتغيير أسمائهم اليهودية بأخرى عربية حتى لا يتم رفضهم في المجتمعات العربية كممثلين ومنتجين ومخرجين.
فيلم «عودة المومياء» والبحث عن هوية
وقد عرض فيلم «عودة المومياء»(4) في البلاد العربية بعد عرضه في أمريكا وأوروبا، وروج هذا الفيلم لليهود بأنهم من بنوا الأهرام باعتبارهم كانوا عبيداً مسخرين لدى الفرعون المصري، وصورت مشاهد الفيلم المصريين بأنهم عبارة عن مجموعة من الهمج الجهلاء والسطحيين، وأنه رغم قوة المومياء فقد صور نجمة داود هي العاصم الوحيد من بطش تلك المومياء لما للنجمة من قوة خارقة وقدرة على حماية من يؤمن بها ويحملها، وتستسلم المومياء لليهودي وتتخذه صديقاً ومساعداً لها، وبالرغم من وصف المومياء لليهودي بأنه مجرد خادم لها، فإن الإيحاء الأول الذي يتلقاه المشاهد أن أصل المسألة هم اليهود، وأنهم أصحاب تلك الحضارة وإن كانوا فيها مجرد خدم تعرضوا للاضطهاد والظلم.
وعلى غرار ذلك الفيلم واستخدام الرسائل المبطنة وغير المباشرة، سارت السينما الصهيونية على هذا النهج، فكما سبق وأشرنا بأن سيطرة الصهاينة على شركات الإنتاج لم تكن شركات الإنتاج الأمريكية وحدها، وإنما كان منها شركات إنتاج بأسماء عربية، وبعضها تحمل أسماء إسلامية خاصة في فترة خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ومن أمثلة هؤلاء الفنانين من أصول يهودية الذين حملوا الرسالة اليهودية عبر أفلامهم، الفنان المصري عمر الشريف، أو ميشيل شلهوب(5)، ففي آخر أفلامه الفرنسية «السيد إبراهيم وزهور القرآن»، قدم دور تاجر مسلم ليس لديه أي هدف في حياته ولا طموح في تجارته البسيطة، غير أنه يهتم لفتى يهودي يتبناه إنسانياً ليقوم بحل مشكلاته الكثيرة التي نجمت عن غياب والده «المظلوم» الذي تعرض لاكتئاب نتيجة الاضطهاد الذي تعرض له كيهودي، فيضطر الفتى للسرقة، لكن الرجل يتركه تعاطفاً معه، ثم تتطور العلاقة بينهما بعد سرقة الفتى اليهودي لتجارة الرجل المسلم لعلاقة مسؤولية أدبية بين المسلم والطفل الذي اضطرته الظروف لسرقة الرجل والاستيلاء على تجارته في رسالة واضحة لعملية تطبيع عميقة ورضا بالأمر الواقع، بل والتعاطف مع اليهودي المدلل!
محاولات سينمائية يهودية لتشويه الإسلام
ولم تسيطر فكرة التطبيع الثقافي وفرض واقع يهودي على العالم على التبشير بوطن صهيوني، فقد باءت محاولات لتشويه الإسلام بشكل مباشر بالفشل عبر السينما، ونجحت بعض تلك المحاولات بشكل كبير، ففي عام 1926م قدم إلى مصر وداد عرفي؛ وهو من أصل يهودي تركي، وكان مهتماً بصناعة السينما والفن، وحين قدم إلى مصر أراد إنتاج فيلم عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، أراد فيه تجسيد شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، وعرض الأمر على الممثل المصري يوسف وهبي، ولكنه رفض الفكرة من الأساس، وحين علم الملك فؤاد بالأمر أصدر أمراً بطرده من مصر، ورفضت وزارة الداخلية المصرية الأمر بشكل تام.
غير أن عرفي ادعى الإسلام، وتقدم لشركة إنتاج تملكها إحدى الممثلات المصريات وهي فاطمة رشدي ليقدم عدة أفلام مشبوهة تمس الدين والثوابت لكن تحت عناوين عربية إسلامية مثل فيلم «نداء الله»، وهكذا استطاع بعض اليهود التسلل إلى السينما العربية وتقديم أفلام استطاعت أن تصنع وعياً جماهيرياً مغايراً للقيم الإسلامية والموروثات العربية، ولم يكن عرفي هو الاسم الوحيد الذي نجح في التسلل إلى عمق بلادنا وتزييف وعي جماهيرها فنياً، وإنما كانت السيطرة الصهيونية على السينما العربية هي الأساس.
وبعد تلك الحقائق المروعة عن التاريخ الفني الصهيوني -وما هو إلا جزء ضئيل من تلك الحقائق- فقد وجب على رجال الأعمال المسلمين والمؤسسات المعنية بالفكر الإسلامي أن تتوقف طويلاً في مسألة الإنتاج الفني وخوض المجال السينمائي لإيجاد البديل ومواجهة الفكر الفاسد بالفكر الصحيح، خاصة أن الفكرة الفنية الإسلامية قد نجحت بشكل كبير عبر سلسلة من المسلسلات التاريخية التركية مثل «قيامة أرطغرل»، و«عثمان»، و«صلاح الدين الأيوبي» وغيرها من المسلسلات التاريخية التي لاقت رواجاً ونجاحاً منقطع النظير، لدرجة أن يحتل أحدها نسب المشاهدة الأولى عالمياً، فالأمر يستحق بعد تاريخ طويل من التواطؤ والتآمر.
__________________________
(1) شركة أمريكية تنتج مجموعة من الأفلام السينمائية الأكثر تأثيراً في تاريخ هوليوود، وعرف بعدها بأفلام كانون (Cannon Films)، أنتجت عدداً من الأفلام الحركية والرومانسية التي تعود أرباحها لمؤسسين «إسرائيليين»، وهما: مناحيم غولان ويورامغلوبس.
(2) قائمة شندلر (Schindler’s List) فيلم أمريكي أنتج عام 1993م، وهو من إخراج ستيفن سبيلبرغ، استناداً إلى كتاب قائمة شندلر (يعرف أيضاً باسم فـُلك شندلر) لتوماس كينيلي، يحكي الفيلم قصة أوسكار شندلر وهو صناعي ألماني مسيحي أنقذ 1100 يهودي بولندي من القتل في المحرقة (الهولوكوست) إبان الحرب العالمية الثانية.
حاز الفيلم على 7 جوائز أوسكار من أصل 12 ترشيحاً، احتل المرتبة التاسعة ضمن قائمة المعهد السينمائي الأمريكي لأفضل مائة فيلم على مر العصور واحتل المرتبة السادسة لتقييم إنترنت موفي داتابيز لأفضل 250 فيلماً على مر التاريخ.
(3) السينما والإعلام الصهيوني لسمير فريد، بتصرف.
(4) عودة المومياء؛ فيلم مغامرات أمريكي من إنتاج عام 2001م من كتابة وإخراج ستيفن سومرز وبطولة كل من: بريندن فرايزر، رايتشل وايز، جون هانا، عديد فيهر، باتريشيا فيلاسكويز وأرنولد فوسلو.
والفيلم يعد امتداداً لأحداث فيلم المومياء الذي أنتج عام 1999م، التي تدور أحداثه عام 1926م ليستكمل فيلم عودة المومياء الأحداث عام 1933م (أي بعد عام واحد من تاريخ عرض فيلم المومياء الأصلي بدور السينما الأمريكية عام 1932م)، وتم تصوير الفيلم في المملكة المتحدة والمغرب والأردن.
(5) عمر الشريف (اسمه الأصلي ميشيل ديمتري شلهوب)، (1350 – 1436 هـ/ 1932- 2015م) ممثل مصري، شارك في العديد من الأفلام في هوليوود، من أشهر أدواره بطولة كل من أفلام: «دكتور جيفاغو»، «الفتاة المرحة»، «لورنس العرب»، رُشِّح الشريف لجائزة الأوسكار، ونال 3 جوائز غولدن غلوب، وجائزة سيزر.