يدعي الغربيون أنهم يمتلكون أعظم مقومات السعادة وأرقى مظاهر الحضارة، ويتعالون بذلك على الناس، مع أن رائحة الخوف تغزو أنوف الجميع شرقاً وغرباً، وأمارات القلق تسود الوجوه وإن لم ينطق اللسان تعبيراً عنها، ويتبين ذلك فيما يأتي:
أولاً: روافد الخوف في الفكر الغربي:
1-الفردانية؛ التي تزرع في أصحابها النظر إلى الذات وتعظيمها، وتلبية احتياجاتها، دون مراعاة الآخرين، مما يؤدي إلى الصراع من أجل تحقيق الذات، وتحقيق الرغبات المتفاوتة والمنافسة الدائمة بين كل إنسان وآخر في سبيل تحقيق المصالح الشخصية.
2- العنصرية؛ التي تؤصل في نفوس أتباعها أنهم أفضل من الآخرين، بل يجب على الآخرين أن يتفانوا في خدمتهم وإرضائهم وتحقيق رغباتهم.
3- الرغبة في تحصيل الاحتياجات بلا ضوابط؛ فالإنسان الغربي يرى أنه يأخذ كل ما يريد، حتى وإن كان هذا ليس له، وبالتالي ليس أمامه إلا أن يحارب باستمرار للوصول إلى هدفه الذي يمكن أن يحققه بالتعدي على الآخرين، فإذا حدث ذلك فإنه في المقابل يظل في حالة خوف وترقب من هجوم الآخرين عليه، رغبة في تحقيق رغباتهم وإشباع شهواتهم.
إن هذه العوامل تجعل الإنسان يخسر الضبط الاجتماعي الذي يؤسس للأمن والاستقرار، بل تجعله في حالة دائمة من التعاسة والشقاء.
ثانياً: شهادات غربية عن مظاهر الخوف في الفكر الغربي:
يقول الطبيب الفرنسي ألكسس كاريل في كتابه «الإنسان ذلك المجهول»: «إن الحضارة العصرية تجد نفسها في موقف صعب؛ لأنها لا تلائمنا، فقد أنشئت دون أي معرفة بطبيعتنا الحقيقية، إذ إنها تولدت من خيالات الاكتشافات العلمية، وشهوات الناس، وأوهامهم، ونظرياتهم ورغباتهم.
وعلى الرغم من أنها أنشئت بمجهوداتنا، فإنها غير صالحة بالنسبة لحجمنا وشكلنا، إننا قوم تعساء؛ لأننا ننحط أخلاقياً وعقلياً، وإن الجماعات والأمم التي بلغت فيها الحضارة الصناعية أعظم نمو وتقدم، هي على وجه الدقة الجماعات والأمم الآخذة في الضعف، التي ستكون عودتها إلى البربرية والهمجية أسرع من عودة غيرها إليها، ولكنها لا تدرك ذلك، إذ ليس هناك ما يحميها من الظروف العدائية التي شيدها العلم حولها.
وحقيقة الأمر أن مدنيتنا مثل المدنيات التي سبقتها، أوجدت أحوالاً معينة للحياة من شأنها أن تجعل الحياة نفسها مستحيلة، وذلك لأسباب لا تزال غامضة، إن القلق والهموم التي يعاني منها سكان المدن العصرية تتولد عن نظمهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية»(1).
وقال أيضاً: «إننا لن نصيب أي فائدة من زيادة عدد الاختراعات الميكانيكية، وقد يكون من الأجدى ألا نضفي مثل هذا القدر الكبير من الأهمية على اكتشافات الطبيعة والفلك والكيمياء، فحقيقة الأمر أن العلم الخالص لا يجلب لنا مطلقاً ضرراً مباشراً، ولكن حينما يسيطر جماله الطاغي على عقولنا، ويستعبد أفكارنا في مملكة الجماد، فإنه يصبح خطراً، ومن ثم يجب أن يحول الإنسان اهتمامه إلى نفسه، وإلى السبب في عجزه الخلقي والعقلي، إذ ما جدوى زيادة الراحة والفخامة والجمال إذا كان ضعفنا يمنعنا من الاستعانة بها فيما يعود علينا بالنفع(2)؟!
وبهذا يتبين لنا حالة القلق الرهيب والخوف الشديد التي تعيشها المجتمعات التي تسير على غير هدى الله وشرعه، على الرغم من تقدمها المادي، ووصولها إلى أرقى أساليب التقنية الحديثة، قال تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) (طه: 124).
فالإنسان في ظلال الفكر الغربي يتنكر للدين ولا يعرف سبيلاً للسعادة إلا في التمتع بأكبر قدر من الرفاهية في المسكن والملبس والمأكل والمركب، ولهذا تجده يسعى نهاراً وليلاً ليعيش حياة مادية تعيسة، فحياته للمال والشهوات، ومن هنا كان إقبالهم على الدنيا ولذائذها عظيماً؛ لأنهم يرون أن الإخفاق في هذه الحياة الدنيا إخفاق إلى الأبد، لأنه لا أبد بعد هذه الحياة، فإذا ضيعوا هذه الحياة فقد ضاع كل شيء لأنها بالنسبة لهم هي الفرصة الأولى والأخيرة.
وفي هذا تأكيد على أن إنكار الدين والتخلي عنه، والعودة إلى الطبيعة والاهتمام بالجانب الاقتصادي فقط وإفراده بالأهمية وجعله أساس كل شيء، وأن كل شيء مجرد انعكاس له، والقول بأنه المحرك الأساسي لحياة البشر، وأنه السبب الوحيد للسعادة الإنسانية؛ أمر يكذبه الواقع؛ حيث نرى أن البلاد التي ارتفع فيها مستوى المعيشة، وتيسرت فيها لأبنائها مطالب الحياة المادية، من مأكل ومشرب، وملبس ومسكن ومركب، مع كماليات كثيرة، لا تزال تشكو من تعاسة الحياة، وتحس بالضيق والانقباض، وتبحث عن طريق آخر للسعادة.
وقد نشر رئيس تحرير مجلة «روز اليوسف» تحقيقاً صحفياً في مقالين منذ سنوات جعل عنوانه «أهل الجنة ليسوا سعداء»؛ وأهل الجنة الذين يعنيهم هم سكان السويد الذين يعيشون في مستوى اقتصادي يشبه الأحلام، ولا يكاد يوجد في حياتهم خوف من فقر أو شيخوخة أو بطالة أو أي كارثة من كوارث الحياة، فإن الدولة تضمن لكل فرد يصيبه شيء من ذلك إعانات دورية ضخمة، بحيث لا يجد مواطن مجالاً للشكوى من العوز أو الحاجة الاقتصادية بحال من الأحوال.
ومع هذه الضمانات التي لم تدع ثغرة إلا سدتها، فقد ذكر الصحفي أن الناس يحيون حياة قلقة مضطربة، كلها ضيق وتوتر، وشكوى وسخط، وتبرم ويأس، ونتيجة هذا أن يهرب الناس من هذه الحياة الشقية النكدة؛ عن طريق «الانتحار» الذي يلجا إليه الألوف من الناس، تخلصاً مما يعانونه من عذاب نفسي أليم.
وانتهى كاتب التحقيق إلى أن السر وراء هذا الشقاء يرجع إلى أمر واحد هو فقدان «الإيمان».
وأمريكا أغنى بلد في العالم، لم يحقق الغنى لأبنائه السعادة على الرغم من ناطحات السحاب، ومراكب الفضاء، وتدفق الذهب من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ورأينا من مفكريهم من يقول: «إن الحياة في نيويورك غطاء جميل لحالة من التعاسة والشقاء»(3)!
إن توفير الرفاهية الاقتصادية إنما يخدم جانباً واحداً من الإنسان، وهو الجانب المادي، وهو جانب ضروري في حياة الإنسان، لكنه لا يغني عن الجانب الروحي الذي يرتقي بالنفس ويشبع القلب بالسكينة والطمأنينة، فلا ينبغي الاقتصار على جانب واحد، أو الانحياز إلى أحدهما دون الآخر، بل يجب التوازن بينهما، من أجل إشباعهما وتحقيق السعادة منهما، قال تعالى: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (النحل: 97).
_________________________
(1) الإنسان ذلك المجهول، ص 37.
(2) المرجع السابق، ص 56.
(3) الإيمان والحياة، د. يوسف القرضاوي، ص 71.