إذا كانت المقاومة مدافعة، وكان المقاوم في الغالب هو الطرف الأضعف وربما الأقلّ عددًا، كما سلف بيانه، فإنّ الصراع يقتضي حالة من المداولة، تشتدّ فيها المحنة على أهل الحق، ويبدو فيها أن الباطل قد حقّق إنجازًا ما، وهو ما بيّنته الآيتان الكريمتان بعدما دال الأمر للمشركين في غزوة «أُحد»، فكشفتا عن سرّ التدبير الإلهي في ذلك: (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {140} وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) (آل عمران).
فقد بيّنت الآيتان علل المداولة، حينما يُديل الله تعالى الأمر لغير المؤمنين، وتلك العلل المذكورة هي: ليُظهِر الله الذي آمنوا، وقد أضاف ظهورهم إلى نفسه بقوله: (وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ)، تفخيمًا لشأنهم، وليتخذ الله من المؤمنين شهداء، وليطهّر المؤمنين، ويمحق الكافرين باغترارهم فيمحقهم بعمى بصائرهم عن قصور قوّتهم أو بذنوبهم بعدما أصرّوا عليها، أو يمحقهم بأيدي المؤمنين حينما يُديل الأمر للمؤمنين.
والحاصل أن وقوع القتل في المؤمنين من عِلل الأمر بالجهاد، وعِلل جعل الأمر عليهم في بعض الأحيان، وقد عبّر بالاتخاذ كناية عن التكريم لأنّه تعالى اتخذهم لنفسه، وفي ذلك تذكير بأنّ النصر الأتمّ والأوفى والفوز العظيم الكامل هو في الآخرة، وأن من يُتخذ في المعركة عُجّل له هذا المعنى، بتكريمه مُتخذًا لله، وذلك بالإضافة إلى ما ذُكِر في ما يكون للشهداء من خصائص غيبية وأخروية كقوله تعالى: (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ {169} فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ {170} يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) (آل عمران).
فاتخاذ الشهداء والحالة هذه هو ربط للوظيفة الإيمانية في الدنيا، وظيفة المكابدة بالطاعة والاستجابة للأمر الإلهي، وما تتضمنه من مقاومة ومدافعة قد يتأخر فيها نصرهم الدنيوي، بالغاية التي هي الدار الآخرة، ومن ثمّ كان الشهداء بوصفهم أحياء رغم انتقالهم لعالم آخر، ربطًا حيًّا وشاخصًا وظاهرًا ومحسوسًا للوظيفة الدنيوية بغايتها الأخروية، وبهذا فوقوع القتل في المؤمنين، وإن كان يستدعي الألم الغريزي والحزن الناجم عن الرحمة التي فُطِرت عليها القلوب، فإنّ القتل فيهم بالنظر إلى جزائهم ليس خسارة، وإن ارتقاء الشهداء منهم سبب للاستمرار في أداء الوظيفة، لأنّهم تذكير حيّ ودائم بالغاية، التي هي الدار الآخرة، ولذلك فإنّ القرآن، أكّد مرّة أخرى على كونهم أحياء، ونهى عن وصفهم بالموتى: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ) (البقرة: 154)، فهم أحياء بالمعنى الذي بيّنه القرآن: (أَحياءٌ عِندَ رَبِّهِم يُرزَقونَ)، وأحياء بكونهم الرابط الشاخص بين الوظيفة الدنيوية والغاية الأخروية.
لا تقتصر الوظيفة الدنيوية للشهداء على كونهم المثال الشاخص للغاية الأخروية من الوظيفة الدنيوية، ولكنهم في ذواتهم المثال الأعلى للتجرّد للقضية التي قُتِلوا في سبيلها، فهم بفعلهم هذا موعظة حيّة من لحم ودمّ، فإنّ الله تعالى باتخاذه للشهداء، يضيف إلى وعظه المؤمنين بكلامه، وعظه لهم باتخاذ أمثلة حيّة من بينهم على الاستجابة للأمر الإلهي، والاستمرار بلا تراجع في واجب الجهاد، ومقاومة الظلم، ومدافعة الباطل، فالنموذج الآدمي بالغ التأثير في الناس والدلالة والاستنهاض له.
وهذه وظيفة أخرى لارتقاء الشهداء، لا سيما الشهداء الذين يرتقون في المعركة مقبلين غير مدبرين، وأعلاهم الذين تجردوا بالكامل للقضية، تجردوا من أنفسهم ومن أموالهم وإن استدعى الأمر من مألوفهم بين أهلهم وفي ديارهم: (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ {19} الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ) (التوبة)، فارتفعت بذلك درجة هذا الصنف من المجاهدين لما قُتِلوا في المعركة، وجُعِلوا درجة ثالثة بعد النبوّة: (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً) (النساء: 69).
وهذا الذي قيل طرف الكلام في العِلل الشريفة من اتخاذ الله تعالى للشهداء، الذين يصلون الوظيفة الدنيوية بالآخرة، وينتصبون مثالاً حيًّا على الاستجابة للأمر الإلهي، والتقدّم بالنفس داعية وواعظًا، ثمّ الاستمرار بدفع الثمن من النفس والمال والتجرّد من كلّ شيء داعيًا وواعظًا، وهم بذلك أيضًا شهود على من معهم ومن خلفهم من المؤمنين، وشهود على الظالمين الذين كان الشهداء من ضحاياهم، وشهود على البشرية الناظرة في معركة الحقّ والباطل، والمعاينة لوقوع الظلم الفاحش بالقتل الواسع في أهل الحقّ، وهي الحالة الظاهرة اليوم بالنسبة لمعركة الفلسطينيين في غزة في معركة «طوفان الأقصى» وحرب الإبادة المفروضة عليهم شهورًا متصلة.