شهد العقد الأول من القرن الحادي والعشرين ظهور ما عرف بـ«الدعاة الجدد»، لكننا فوجئنا مع العقد التالي انتشار ظاهرة «الإلحاد الجديد» الذي أصبح أتباعه يجاهرون به علانية، حدث ذلك بالتزامن مع ثورات «الربيع العربي» والشعور باليأس إلى جانب صعود جماعات التطرف والإرهاب ونشاط تيار الملحدين مستغلًا تلك البيئة الخصبة للإيقاع بمزيد من الضحايا من الشباب العربي.
يبدو كتاب «ليطمئن عقلي» للدكتور أحمد خيري العمري، الصادر عن «عصير الكتب» بين أهم الإصدارات الفكرية المهمة التي تصدت لكم الهجمة الإلحاد الجديدة، بمنطق هادئ ولغة سهلة، وقد جمع المؤلف ميراث خبراته في الرد على رسائل الحائرين عبر أكثر من 650 صفحة.
ظهر الكتاب كما يشير مؤلفه كي لا ندفن رؤوسنا في الرمال ونتجاهل ظاهرة باتت واسعة الانتشار بظهور «إلحاد مسلح أصولي»، وليس إلحاداً فلسفياً كما كان من قبل، والسكوت عليه يعني غرق السفينة بمن فيها!
يشير الكتاب لاشتراك المؤمنين والملحدين في أمراض أدت لانتشار ظواهر الإلحاد، ومنها التفسير الحرفي المادي للنصوص، الاعتقاد بأن كل ما يرتبط بالدين يجب أن يكون قطعياً، الاجتزاء من السياق بطريقة «ويل للمصلين»، فيما يذهب البعض لأمراض تريد عالماً رومانسياً (من عينة هؤلاء الذين يستنكرون أن يحمل النبي السلاح في الغزوات ضد المشركين)، وصولاً لمغالطة «انظر العصفورة»، وهو ما يجري حين يكون التساؤل من خلق الكون؟ فيأخذنا الملحدون إلى موقف الإسلام من الرق أو تعدد الزوجات!
وجود الله تعالى
يؤمن بعض الملحدين أن العالم كان موجوداً، وأن الله فحسب هو محركه، حاشاه سبحانه، وهناك من ادعى أن العالم قد نشأ فجأة كما ادعى ستيفن هوكنغ، فيما وضع ريتشارد داوكنز الدين في مرتبة الخرافات، فقط لأنه شخصياً لا يستطيع إيجاد الدليل على وجود الخالق!
الحقيقة أن الإيمان بالله وبالغيب أمر يقتضيه الحس بداهة، وليس بالأدلة المادية وحدها، مع ذلك فالمنطق أيضاً يقودك لمعرفة الله؛ فالكون منظم بديع دقيق، ولا مجال للصدفة.
تبدو صورة الإله في الإسلام بعيدة عما ارتكبته الديانات السابقة من تشبيه وتجسيم أقرب للعقل البشري البدائي، صورة منزهة عن البشر وأفعالهم، فهو لا يمشي في الجنة كما نقرأ في الإنجيل المتاح حالياً، ولا يصارع يعقوب كما فعلت التوراة التي طالها التحريف، ولا نرى صورة الإله المتحد مع الطبيعة الصامت كما اعتقد أينشتاين.. بل إله خالق متعال يكلم الأنبياء، ولكن بما يليق بجلاله، يسمع ويبصر ويستوي على العرش، ولكن كل ذلك تحت مظلة كبيرة من الآية الكريمة: (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ) (الشورى: 11)، فعقولنا محدودة وربنا مطلق في صفاته وقدراته ولا يمكن الإحاطة به أو تصوره.
وبعض الملحدين يعتقد بالفعل بأن هناك قوة خالقة لكن طالما لم تتدخل في حياته! أي أنهم ينكرون إله الكتب السماوية، وكأنك تريد من صاحب المصنع أن يتركك مع الآلات دونما طريقة يخبرك بتشغيلها، الحقيقة لا معنى لوجود إله لا يتصل بخالقه، لا يأمر ولا ينهى.
إن الطبيعة تخبرك أن الله واحد، والكون المتمدد الأطراف وبكل ما فيه من مجرات وكواكب ونجوم وقوانين تنظم علاقة كل ذلك، لا بد أن طبيعته تشير لقدرة فائقة كلية مبدعة، وإذا كانت تلك الطبيعة موجودة منذ ما يزيد على 13 مليار سنة، فهذا يعني أن صانعها كان حاضراً آنذاك له إرادة مسبقة وحكمة، يكفي أن تتأمل المعلومات الوراثية المرتبة في كل خلية حية والمتحكمة في شكلنا ووظائفنا وسلوك الحياة ككل لتدرك أن خالقاً حكيماً يخبرها بكل ذلك.
الشر في العالم
ينتقل المؤلف لحجة أخرى إلحادية، فالعالم مليء بالمعاناة، وسيقول بعضهم: لو كان ثمة إله خالق مطلق القدرة والخير فلن يخلق شراً، أو على الأقل سيمنعه، وهؤلاء ينسون أن تاريخ الإنسانية بكل حضاراتها كان مبنياً على الدم، حروب وإبادة وقتل أو كوارث طبيعية، ولكننا في ظل السماوات المفتوحة أصبحنا نراها بالصوت والصورة ونتوحد معها.
وعلى خلاف المسيحيين الذين وضعوا خطايا البشر على عاتق السيد المسيح، فكان وضعه –بحسب اعتقادهم- على الصليب تخليصاً للبشر من الشرور، بينما في اليهودية نرى صورة الإله أساساً مرتبطة بالشر –وحاشا لله- أما في الإسلام فنحن لا نبني صورة خيالية، ولا نقول بأن الكون سيخلو من الشر، بل هو دار ابتلاء واختبار وتقييم، والعدل المطلق سيكون في الآخرة، نحن نعيش بين غيبين وليس بين عدمين، تبدو هنا مشكلة الشر أخف وطأة!
وفي أحلك لحظاتك إن دعوت الله، عليك أن تتبرأ من معاصيك، ثم تستفرغ وسعك لحلها، ثم تدعو فإن واتتك الإجابة كما تريد سعدت بها، وإن جاءت بغير ذلك فإن إيمانك يرشدك لكون اختيار الله هو الأصلح، هذه آلية لا يفهمها الملحدون عادة في أوقات الكوارث حين يدعو المؤمنين فلا تحدث إجابة فورية.
لماذا الدين؟
إن الدين باعث أخلاقي في حياة البشرية منذ الأزل، وهو أيضاً قادر على جعلك تمتص الأزمات والصدمات، وهو باب لسعادة نفسية وحياة عائلية مستقرة، لكن الدين ليست تلك غايته الأولى، الغاية أن تدرك به الحقيقة وتتبعها، أن تعرف هدفاً لوجودك بعبادة الله والإصلاح في الأرض.
يجب أن يركز خطابنا للملحدين الجدد على أن الدعوة للعصرية لا تعني توديع الدين باعتباره شيئاً من الماضي، فالحقيقة أن الدين متجدد، والإنسان نفسه قديم في نشأته ولكنه متجدد في طرائق معيشته ووعيه، وكل الأنظمة حولك من دولة ومدرسة وأسرة وتفاصيل حياتك من مأكل ومسكن وملبس هي أنظمة قديمة متجددة.. فهل ستودعها؟!
لقد اقتضت الحاجة لتنزيل شرائع إلهية تلائم تطور البشرية قبل أن تنضج وتتلقى الرسالة الخاتمة الصالحة لكل زمان ومكان، وحان الوقت لكي نتبع طمأنينة القلب والعقل معاً في الإسلام، وأن نواجه الخطاب السائد للملحدين بفهم لدوافعه ومعالجة منطقية غير متشنجة تسقطنا معهم في صراع لا ينتهي.. بين اليقين واللا يقين.. وما أبعد الشاطئين!