كتب عمر بن الخطاب إلى أُمَرَائِهِ وَعُمَّالِهِ فِي الأَمْصَارِ: «إِنَّ أَهَمَّ أُمُوركُمْ عِنْدِي الصَّلَاةُ، مَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا حَفِظَ دِينَهُ، وَمَنْ ضَيَّعَهَا فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَعُ، وَمَنْ نَامَ عَنْهَا فَلاَ نَامَتْ عَيْنُهُ»(1)، إنه يدعو الناس إلى المحافظة على الصلاة، ويحذرهم من الانشغال عنها، فهي أول فروض الإسلام، وآخر ما يضيع منه.
وقد حرصت الحضارة الإسلامية على تربية الدعاة فيها على المحافظة على الصلاة، ويتبين ذلك فيما يأتي:
1- إعلان الشوق للصلاة والراحة في أدائها:
إن البداية العملية للحضارة الإسلامية تظهر في شخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو المؤسس الأول لها، وقد أكد أن الراحة النفسية والطمأنينة القلبية والسعادة الحياتية تبدأ من الصلاة، ففي مسند أحمد عن رجل من بني أسلم أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ لِبِلَالٍ: «يَا بِلَالُ، أَرِحْنَا بِالصَّلَاةِ»، وفي سنن النسائي عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «وَجُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلاةِ»، وفي سنن أبي داود عن حذيفة، «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا حزَبه أمرٌ صلَّى».
الراحة النفسية والطمأنينة القلبية والسعادة الحياتية تبدأ من الصلاة
ففي هذه الأحاديث دليل على أن الصلاة منبع الراحة والسعادة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلن اشتياقه لها، ولم يكن أصحابه إلا مثله في هذا الأمر، فهذا عدي بن حاتم يصور لنا تعلقه بالصلاة فيقول: مَا جَاءَ وَقْتُ صَلَاةٍ قَطُّ إِلَّا وَقَدْ أَخَذْتُ لَهَا أُهْبَتَهَا، وَمَا جَاءَتْ إِلَّا وَأَنَا إِلَيْهَا بِالأَشْوَاقِ(2).
2- حسن الاستعداد والاستجابة لها في وقتها:
قال سفيان بن عيينة: لا تكن مثل عبد السوء، لا يأتي حتى يُدعَى، ائت الصلاة قبل النداء(3)، وقال عدي بن حاتم: «مَا أُقِيْمَتِ الصَّلَاةُ مُنْذُ أَسْلَمْتُ إِلَاّ وَأَنَا عَلَى وُضُوْءٍ»(4).
3- قطع الأعمال لأجلها:
في صحيح البخاري عن عَائِشَةَ أنها سُئلت: ما كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يَصْنَعُ في بَيْتِهِ؟ قالَتْ: «كانَ يَكونُ في مِهْنَةِ أهْلِهِ -تَعْنِي خِدْمَةَ أهْلِهِ- فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلَاةُ خَرَجَ إلى الصَّلَاةِ»، وكان إبراهيم بن ميمون المَرُّوزِيُّ، أَحَدُ رِجَالاتِ الحَدِيثِ، يَعْمَلُ صَائِغًا (يطرق الذهب والفضة)، فَكَانَ إِذَا رَفَعَ المِطْرَقَةَ فَسَمِعَ النِّدَاءَ وَضَعَهَا وَلَمْ يَرُدَّهَا(5).
الله سبحانه وتعالى وعد من يحافظ على أداء الصلاة بدخول الجنة
4- الحرص على أدائها في المسجد:
روى مسلم عن ابن مسعود قال: «مَن سرَّه أن يَلقى اللهَ غدًا مسلمًا، فليُحافِظ على هؤلاء الصَّلوات حيث ينادى بهنَّ؛ فإنَّ الله تعالى شرع لنبيِّكم صلى الله عليه وسلم سننَ الهدى، وإنهنَّ مِن سنن الهدى، ولو أنَّكم صلَّيتُم في بيوتكم كما يصلِّي هذا المتخلِّف في بَيته، لتركتم سنَّةَ نبيِّكم، ولو تركتم سنَّةَ نبيِّكم لضَللتم، وما مِن رَجل يتطهَّر فيُحسن الطّهورَ، ثمَّ يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلَّا كَتب الله له بكلِّ خطوة يَخطوها حسَنة، ويَرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة، ولقد رأيتُنا وما يتخلَّف عنها إلَّا منافِق مَعلوم النِّفاق، ولقد كان الرجل يؤتى به يهادى بَين الرَّجلين حتى يُقام في الصفِّ».
وقد ضرب العلماء أروع الأمثلة في المحافظة على الصلاة في المسجد، فهذا سعيد بن المسيَّب يقول: «مَا أَذَّنَ الْمُؤَذِّنُ مُنْذُ ثلَاثِينَ سَنَةً إِلَّا وَأَنَا فِي الْمَسْجِدِ»(6).
لماذا حرص الدعاة في الحضارة الإسلامية على المحافظة على الصلاة؟
1- الاستجابة لأمر الله والحرص على تحصيل الثواب:
لقد أمر الله تعالى بالمحافظة على الصلاة، فقال: (حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ) (البقرة: 238)، وجعل الله تعالى المحافظة على الصلاة من صفات المؤمنين، حيث قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ) (الأنعام: 92)، ووعد الله تعالى من يحافظ على الصلاة بدخول الجنة، فقال: (وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ {9} أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ {10} الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) (المؤمنون)، وعن سعيد ابن المسيب قال: «من حافظ على الصلوات الخمس في جماعة فقد ملأ البر والبحر عبادة»(7).
2- من حافظ على الصلاة عُرِف بها وكان من أهلها:
روى البخاري، ومسلم، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن كانَ مِن أهْلِ الصَّلاةِ، دُعِيَ في الجنة مِن بابِ الصَّلاةِ»، قال ابن عبد البر: من أكثر من شيء عُرف به ونسب إليه، ألا ترى إلى قوله: «فمن كان من أهل الصلاة»؛ يريد أن من أكثر منها نسب إليها، ومعناه: أَنْ تَكُونَ الصَّلَاةُ أَغْلَبَ أَعْمَالِهِ وَأَكْثَرَهَا(8).
من حافظ على أداء الصلاة وأكثَرَ منها عُرِف بها وكان من أهلها
3- الاستشفاع بها عند لقاء الله:
حِينَ نَزَلَتْ بِسَعِيدٍ بن المسيب سَكَرَاتُ المَوْتِ، وَقَفَ عِنْدَ رَأْسِهِ بُنْيَّاتُهُ يَبْكِينَ فِرَاقَهُ وَوَدَاعَهُ، فَقَالَ لَهُنَّ: أَحْسِنُوا الظَّنَّ بِاللهِ، فَوَاللهِ مَا فَاتَتْنِي تَكْبِيرَةُ الإِحْرَامِ فِي هَذَا المَسْجِدِ مُنْذُ أَرْبَعِينَ سَنَةً(9).
ما وسائل الحضارة الإسلامية في تربية الدعاة على المحافظة على الصلاة؟
1- الوصية بالمحافظة على الصلاة:
كتب عمر بن عبدالعَزِيز إِلَى أحد أُمَرَاء الأجناد، أما بعد: فَإِن عرى الدّين وقوام الْإِسْلَام الْإِيمَان بِاللَّه وإقام الصَّلَاة لوَقْتهَا وإيتاء الزَّكَاة وحافظ على أَوْقَات الصَّلَوَات، فَإِن الْمُحَافظَة عَلَيْهَا حق، واصبر نَفسك على ذَلِك(10).
2- القدوة في المحافظة على الصلاة:
عن وكيع بن الجراح قال: كنت أختلف إلى الأعمش قريباً من سنتين، ما رأيته يقضي ركعة، وكان قريباً من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى(11).
العلماء في الحضارة الإسلامية حرصوا على عدم السهو عن الصلاة
3- التحذير من الانشغال عن الصلاة:
أتى ميمون بن مِهران المسجدَ، فقيل له: إنَّ الناس قد انصرفوا، فقال: إنَّا لله وإنا إليه راجعون؛ لَفضل هذه الصلاة أحبُّ إليَّ من ولاية العراق(12)، وَكتب عمر بن عبدالعزيز إلى عُمَّاله: اجتنبوا الأشغال عند حضور الصلوات، فَإِنَّهُ من يضيع الصَّلَاة فَهُوَ لما سواهَا من شرائع الْإِسْلَام أَشد تضييعا(13)، وقال ابن عباس: مَن سَمع المنادي فلم يجِب، لم يرِدْ خيراً، ولم يُرَد به خيراً، وقال أبو هريرة: لأَن تُملأ أذن ابن آدم رصاصاً مذاباً خير له من أن يَسمع النداء ثمَّ لا يجيب(14)، وقال إبراهيم النخعي: إذا رأيت الرجل يتهاون في التكبيرة الأولى فاغسل يدك منه(15)، وأخرج ابن خزيمة عن ابن عمر قال: «كُنَّا إِذَا فَقَدْنَا الرَّجُلَ فِي الفَجْرِ أَوِ العِشَاءِ أَسَأْنَا بِهِ الظَّنَّ»(16)، وعَنْ أَبِي العَالِيَةِ الرياحي، قَالَ: كُنْتُ أَرْحَلُ إِلَى الرَّجُلِ مَسِيْرَةَ أَيَّامٍ لأَسْمَعَ مِنْهُ، فَأَتَفَقَّدُ صَلَاتَهُ، فَإِنْ وَجَدْتُهُ يُحْسِنُهَا، أَقَمْتُ عَلَيْهِ، وَإِنْ أَجِدْهُ يُضِيِّعُهَا، رَحَلْتُ وَلَمْ أَسْمَعْ مِنْهُ، وَقُلْتُ: هُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَعُ(17).
4- التحذير من السهو في الصلاة:
حرص العلماء في الحضارة الإسلامية على عدم السهو في الصلاة، والتخلي عن كل ما يشغلهم عن حسن أدائها، فقد أورد الذهبي عن ابن عمر قال: خرج عمر يَوْماً إِلَى حَائِط لَهُ فَرجع وَقد صلى النَّاس الْعَصْر، فَقَالَ عمر: إِنَّا لله وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون، فاتتني صَلَاة الْعَصْر فِي الْجَمَاعَة، أشهدكم أَن حائطي على الْمَسَاكِين صَدَقَة، ليَكُون كَفَّارَة لما صنع عمر(18).
وروى المنذري عن أبي هريرة قال: «إن الرجل ليصلي ستين سنة وما تقبل الله له صلاة، فقيل له: كيف ذلك؟ فقال: لا يتم ركوعها ولا سجودها ولا قيامها ولا خشوعها»، ويقول الإمام أحمد بن حنبل: «يأتي عَلَى الناس زمان يصلون ولا يصلون، وقد تخوفت أن يكون هذا الزمان، لو صليت فِي مائة مسجد ما رأيت أهل مسجد واحد يقيمون الصلاة عَلَى ما جاء عَنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه، فاتقوا اللَّه وانظروا فِي صلاتكم»(19).
__________________________
(1) أخرجه مالك في الموطأ (1/ 6 – 7).
(2) الجامع الكبير: السيوطي (21/ 615).
(3) التبصرة: ابن الجوزي (1/ 137).
(4) سير أعلام النبلاء: الذهبي (3/ 164).
(5) تهذيب التهذيب: ابن حجر العسقلاني (1/ 173).
(6) مصنف ابن أبي شيبة (1/ 308).
(7) حلية الأولياء: الأصبهاني (2/ 162).
(8) المنتقى: شرح الموطأ (3/ 218).
(9) نسيم الحجاز: د. ناصر الزهراني، ص 102.
(10) سيرة عمر بن عبدالعزيز: ابن عبدالحكم، ص 72.
(11) تهذيب التهذيب: ابن حجر العسقلاني (4/ 224).
(12) إتحاف السادة المتقين: الزبيدي (3/ 26).
(13) سيرة عمر بن عبدالعزيز: ابن عبدالحكم، ص 73.
(14) إتحاف السادة المتقين: الزبيدي (3/ 26).
(15) صفة الصفوة: ابن الجوزي (3/ 88).
(16) أخرجه ابن خزيمة (1485)، وابن حبان (2099) واللفظ له.
(17) سير أعلام النبلاء: الذهبي (4/ 209).
(18) الكبائر: الذهبي، ص 31.
(19) طبقات الحنابلة: ابن أبي يعلى (1/ 352).