الدعاة كانوا يعدون فوات صلاة الجماعة تقصيراً كبيراً من النفس تستحق عليه التأديب
اندفع الدعاة إلى أداء الصلاة في جماعة انطلاقاً من الشعور بالراحة والسعادة وتذوق الإيمان
أورد الذهبي في «سير أعلام النبلاء» أَنَّ عَبْدَالعَزِيْز بنَ مَرْوَانَ بَعَثَ ابْنَهُ عُمَرَ إِلَى المَدِيْنَةِ يَتَأَدَّبُ بِهَا، وَكَتَبَ إِلَى صَالِحِ بنِ كَيْسَانَ يَتَعَاهَدُهُ، وَكَانَ يُلْزِمُهُ الصَّلَوَاتِ، فَأَبْطَأَ يَوْماً عَنِ الصَّلَاة، فَقَالَ: مَا حَبَسَكَ؟ قَالَ: كَانَتْ مُرَجِّلَتِي تُسَكِّنُ شَعْرِي، فَقَالَ: بَلَغَ مِنْ تَسْكِيْنِ شَعْرِكَ أَنْ تُؤْثِرَهُ عَلَى الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ، وَكَتَبَ بِذَلِكَ إِلَى وَالِدِهِ، فَبَعَثَ عَبْدُالعَزِيْزِ رَسُولاً إِلَيْهِ، فَمَا كَلَّمَهُ حَتَّى حَلَقَ شَعْرَهُ. (سير أعلام النبلاء، 5/ 116).
إنها صورة مجسدة لحال الدعاة في الحضارة الإسلامية في إعداد الأجيال إعداداً تعبدياً يتخذ من صلاة الجماعة أساساً وركناً متيناً في بناء الشخصية المسلمة التي تستطيع أن تقود الحضارة وتنهض بالأمة، ويتبين هذا الإعداد فيما يأتي:
أولاً: مظاهر الحرص على صلاة الجماعة الحضارة الإسلامية:
1- التسابق إلى المساجد:
ورد عن أبي مُسْلِم الخَوْلَانِيَّ أنه سَمِعَ رَجُلاً يَقُوْل: سَبَقَ اليَوْمَ فُلَانٌ، فَقَالَ: أَنَا السَّابِقُ، قَالُوا: وَكَيْفَ يَا أَبَا مُسْلِمٍ؟ قَالَ: أَدْلَجْتُ مِنْ دَارِيَّا، فَكُنْتُ أَوَّلَ مَنْ دَخَلَ مَسْجِدَكُمْ. (سير أعلام النبلاء، 4/ 10)، وقال سعيد بن المسيب: مَا فَاتَتْنِي الصَّلَاةُ فِي جَمَاعَةٍ مُنْذُ أَرْبَعِيْنَ سَنَةً. (حلية الأولياء، 2/ 162).
2- التبكير إلى المسجد عند حضور الصلاة:
قال سعيد بن المسيب: ما أذن المؤذن منذ ثلاثين سنة إلا وأنا في المسجد. (سير أعلام النبلاء، 5/ 126)، وعن وكيع قال: كان الأعمش قريباً من سبعين سنة لم تفته التكبيرة الأولى لصلاة الجماعة. (وفيات الأعيان، ابن خلكان، 2/ 401).
3- حث الأبناء على صلاة الجماعة:
عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم مِمَّنْ شَهِدَ بَدْراً، قَالَ لاِبْنِهِ: أَدْرَكْتَ الصَّلَاةَ مَعَنَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَدْرَكْتَ التَّكْبِيرَةَ الْأُولَى؟ قَالَ: لَا، قَالَ: لَمَا فَاتَكَ مِنْهَا خَيْرٌ مِنْ مِائَةِ نَاقَةٍ، كُلُّهَا سَوْدَاءُ الْعَيْنِ. (مصنف عبد الرزاق، 2/ 227).
4- اهتمام الخلفاء بصلاة الجماعة:
عَنْ ثَابِتِ بْنِ الْحَجَّاجِ، قَالَ: خَرَجَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إِلَى الصَّلَاةِ، فَاسْتَقْبَلَ النَّاسَ فَأَمَرَ الْمُؤَذِّنَ فَأَقَامَ، وَقَالَ: وَاللَّهِ لَا نَنْتظِرُ بِصَلَاتِنَا أَحَداً، فَلَمَّا قَضَى صَلَاتَهُ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ، ثُمَّ قَالَ: مَا بَالُ أَقْوَامٍ يَتَخَلَّفُونَ يَتَخَلَّفُ بِتخلفِهِمْ آخَرُونَ، وَاللَّهِ لَقَدْ هَمَمْتُ أَنْ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ فَيُجَاءَ فِي أَعْنَاقِهِمْ، ثُمَّ يُقَالَ: اشْهَدُوا الصَّلَاةَ. (مصنف عبد الرزاق، 2/ 216)، وهذا علي بن أبي طالب كان يخرج من بيته كل يوم، فينادي: أيها الناس! الصلاة الصلاة، يوقظهم لصلاة الفجر. (تاريخ الطبري، 5/ 146).
5- التحسر والبكاء لفواتها:
قَالَ مُحَمَّدُ بنُ المُبَارَكِ الصُّوْرِيُّ: كَانَ سَعِيدُ بْنُ عَبْدِالعَزِيزِ التَّنُوخِيُّ إِذَا فَاتَتْهُ صَلاةُ الجَمَاعَةِ بَكَى. (سير أعلام النبلاء، 8/ 34)، بل إن الدعاة في الحضارة الإسلامية كانوا يُعَزُّونَ أَنْفُسَهُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إذَا فَاتَتْهُمْ التَّكْبِيرَةُ الْأُولَى وَيُعَزُّونَ سَبْعاً إذَا فَاتَتْهُمْ الْجَمَاعَةُ. (إحياء علوم الدين، 1/ 149)، وقَالَ حَاتِمٌ الْأَصَمُّ: فَاتَتْنِي مَرَّةً صَلَاة الجماعة فَعَزَّانِي أَبُو إِسْحَاقَ الْبُخَارِيُّ. (الكبائر: الذهبي، ص 31)، وبلغ من تحسرهم على فواتها أن محمداً بن سماعة قَالَ: مكثتُ أربعين سنة لَم تفُتْني التكبيرة الأولى في صلاة الجماعة إلا يوماً واحداً ماتت فيه أمّي، فقمتُ وصلَّيْتُ خمساً وعشرين صلاة، أريدُ بذلك التضعيف، فغلبتني عيني فقيل لي: فِي اليوم قد صليت، ولكن كيف لك بتأمين الملائكة. (تاريخ بغداد، 5/ 342).
6- تأديب النفس إذا فاتتها صلاة الجماعة:
كان الدعاة في الحضارة الإسلامية يعدون فوات صلاة الجماعة تقصيراً كبيراً من النفس الإنسانية تستحق عليه التأديب، فقد ثبت أن عُمَرَ بن الخطاب خَرَجَ إلَى بُسْتَانٍ لَهُ فَرَجَعَ وَقَدْ صَلَّى النَّاسُ الْعَصْرَ، فَقَالَ: إنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إلَيْهِ رَاجِعُونَ، فَاتَتْنِي صَلَاةُ الْعَصْرِ فِي الْجَمَاعَةِ، أُشْهِدُكُمْ أَنَّ حَائِطِي عَلَى الْمَسَاكِينِ صَدَقَةٌ لِتَكُونَ كَفَّارَةً لِمَا صُنِعَ. (الزواجر: ابن حجر الهيتمي، 1/ 238).
7- عدم تفضيل شيء عليها:
قد يمتنع البعض عن حضور صلاة الجماعة لانشغاله ببعض الأعمال، كالولاية أو الزواج أو غيرها، وكان الدعاة في الحضارة الإسلامية لا يفضلون أي عمل على صلاة الجماعة، بل يرون أن حضور الصلاة أحب إليهم من هذه الأعمال، فقد رُوي أن ميموناً بن مِهران أتى المسجدَ، فقيل له: إنَّ الناس قد انصرفوا، فقال: إنَّا لله وإنا إليه راجعون؛ لَفضل هذه الصلاة أحبُّ إليَّ من ولاية العراق. (إحياء علوم الدين، (1/ 149)، وروي أن الحارث بن حسان تزوج، فقيل له: أتخرج وإنما بنيت بأهلك في هذه الليلة؟ فقال: إن امرأة تمنعني من صلاة الغداة في جمع لامرأة سوء. (حياة الصحابة: الكاندهلوي، 4/ 163).
8- التغلب على المعوقات التي قد تحول دون حضورها:
تتزاحم الأشياء حتى تلهي الإنسان عن صلاة الجماعة، وكان الدعاة في الحضارة الإسلامية لا يمنعهم من صلاة الجماعة مانع، إلا ما كان من عذر قاهر، بل إنهم كانوا يتغلبون على أعذارهم ويقهرونها، ومن ذلك أن الرَّبيع بن خثيم كان قد سَقط شقُّه في الفالج، فكان يَخرج إلى الصَّلاة يتوكَّأ على رجلين، فيقال له: يا أبا محمد، قد رُخِّص لك أن تصلِّي في بيتك؛ أنت معذور، فيقول: هو كما تقولون، ولكن أسمع المؤذِّن يقول: حيَّ على الصَّلاة، حيَّ على الفلاح، فمَن استطاع أن يُجيبه ولو زحفاً أو حبواً، فليفعل. (الكبائر: الذهبي، ص 31).
ثانياً: دوافع الحرص على صلاة الجماعة في الحضارة الإسلامية:
1- عدها من لذائذ الحياة:
لقد اندفع الدعاة في الحضارة الإسلامية إلى أداء الصلاة في الجماعة انطلاقاً من الشعور بالراحة والسعادة في ذلك، ويدل على هذا ما حدّث به محمد بن واسع، حيث قال: ما آسى من الدنيا إلا على ثلاث: صاحب إذا تعوَّجتُ قوَّمني، وصلاة في جماعة يحمل عني سهوها وأفوز بفضلها، وقُوت من الدنيا ليس لأحد فيه منة ولا لله فيه تبعة. (صفة الصفوة: ابن الجوزي، 2/ 160).
2- تحصيل ثوابها:
أخرج البخاري، ومسلم، عن عبدالله بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «صَلَاةُ الجَمَاعَةِ تَفْضُلُ صَلَاةَ الفَذِّ بسَبْعٍ وعِشْرِينَ دَرَجَةً»، وروى مسلم عن ابن مسعود قال: «مَن سرَّه أن يَلقى اللهَ غداً مسلماً، فليُحافِظ على هؤلاء الصَّلوات حيث ينادى بهنَّ؛ فإنَّ الله تعالى شرع لنبيِّكم صلى الله عليه وسلم سننَ الهدى، وإنهنَّ مِن سنن الهدى، وما مِن رَجل يتطهَّر فيُحسن الطُّهورَ، ثمَّ يعمد إلى مسجد من هذه المساجد إلَّا كَتب الله له بكلِّ خطوة يَخطوها حسَنة، ويَرفعه بها درجة، ويحط عنه بها سيئة».
3- الخوف من عواقب التخلف عنها:
روى ابن خزيمة عن ابْنُ عُمَر قال: كُنَّا إِذَا فَقَدْنَا الرَّجُلَ فِي الفَجْرِ أَوِ العِشَاءِ أَسَأْنَا بِهِ الظَّنَّ، وكان بعض السَّلَف يقول: ما فاتَت أحداً صلاةُ الجماعة إلَّا بذنب أصابَه. (الكبائر، ص 31)، وروى مسلم عن ابن مسعود قال: «لقد رأيتنا وما يتخلف عن الصلاة إلا منافق قد علم نفاقه أو مريض، وقال أبو هريرة: لأَن تُملأ أذن ابن آدم رصاصاً مذاباً خير له من أن يَسمع النداء ثمَّ لا يجيب. (إحياء علوم الدين، 1/ 149).
4- تحقيق اجتماع المسلمين وإظهار عزتهم:
إن تجمع المسلمين في الصلوات وحرصهم على أدائها في الجماعة يكشف عن مدى الوحدة بينهم، والتقائهم على كلمة سواء، ويسهم هذا في إزالة العديد من الفوارق التي تشتت الناس وتقسمهم إلى طوائف متناحرة، كما يسهم هذا المشهد المهيب في إبراز مواقف العزة الإسلامية بطاعة الله تعالى والحرص على الاقتراب منه.