ما زالت القوة الأمريكية، الاقتصادية والعسكرية، غير المسبوقة تاريخياً تحرض القادة الأمريكيين على اتخاذ قرارات متطرفة تهدف إلى تغيير شكل العالم على هوى أمريكا وحلفائها، فمقارنة القوة الأمريكية بغيرها من القوى الكبرى في الحاضر والماضي يصيب صناع القرار الأمريكيين بمس من الجنون.
فأمريكا على الرغم من إغلاق مئات القواعد في العراق وأفغانستان مؤخراً، لا تزال حسب موقع «politico» تحتفظ بنحو 800 قاعدة عسكرية في أكثر من 70 دولة ومنطقة في العالم، بينما تمتلك بريطانيا وفرنسا وروسيا مجتمعة نحو 30 قاعدة فقط في خارج أراضيها.
وعلى الجانب الاقتصادي، بلغ الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة حوالي 27.36 تريليون دولار في عام 2023م، وهو ما يمثل حوالي 24% من الاقتصاد العالمي؛ وهذا يعني أن ما يقرب من ربع النشاط الاقتصادي العالمي يتم توليده من قبل الولايات المتحدة.
غطرسة القوة دفعت رئيساً أمريكياً سابقاً ومرشحاً رئاسياً مثل ترمب بأن يعد بتوسيع مساحة الكيان الصهيوني، حتى يسهل الدفاع عنه! وكأن العالم ضيعة أمريكية تفعل به ما تشاء.
لا يتعلمون من دروس الماضي
لا شك أن القوة الأمريكية العسكرية والاقتصادية هي التي تصيب ثلة ليست بالقليلة من المفكرين والساسة الأمريكيين بصلف غير مسبوق في التاريخ الإنساني، فيرون أنفسهم أنصاف آلهة يمكنهم أن يفعلوا بالعالم ما يشاؤون، ولا يتعلموا من دروس الماضي!
فإذا كانت القوة المفرطة المدعومة أمريكياً التي يستخدمها رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو قد أدت إلى تحويل غزة إلى أنقاض وها هو يتحول إلى لبنان، ليقتل المزيد من البشر ويدمر المؤسسات والأعراف الاجتماعية، فقد فعلها قبله نكسون، وجونسون، في فيتنام، ثم خرجوا يجرون أذيال الخيبة، وفعلها بوش الكبير، وبوش الصغير في العراق وأفغانستان! ولكن فيتنام لم تركع، ولم يركع العراق، وهزمتهم أفغانستان هزيمة عسكرية منكرة.
العالم تغير بالفعل
العالم على مشارف الربع الثاني من القرن الحادي والعشرين غير العالم إبان الحرب العالمية الأولى، و«سايكس بيكو» في بداية القرن العشرين، والعالم الآن غير العالم بعد الحرب العالمية الثانية.
في عشرينيات القرن الماضي، شهد الاقتصاد الأمريكي نموًا كبيرًا، حيث ارتفع الناتج المحلي الإجمالي من 687.7 مليار دولار في عام 1920 إلى 977.0 مليار دولار في عام 1929م، وقد تميزت تلك الفترة، المعروفة باسم «العشرينيات الهادرة»، بالتصنيع السريع والتقدم التكنولوجي وزيادة الإنفاق الاستهلاكي.
وبعد الحرب العالمية الثانية، استمر الاقتصاد الأمريكي في النمو، حيث وصل الناتج المحلي الإجمالي إلى 300 مليار دولار في عام 1950م وأكثر من 500 مليار دولار بحلول عام 1960م.
شهدت أمريكا طفرة اقتصادية هادرة أعقبت الحرب، غالبًا ما يشار إليها باسم «العصر الذهبي للرأسمالية»، وحدث ازدهار واسع النطاق وتوسع اقتصادي كبير.
لم تكن قارة آسيا آنذاك مثل قارة آسيا اليوم، لا اقتصادياً ولا عسكرياً، فقد كانت اليابان مهزومة ومستسلمة، وكانت باقي القارة تكافح من أجل الاستقلال.
تنافس اقتصادي حاد
آسيا اليوم، قوة اقتصادية يمكن أن تتجاوز، مجتمعة، قوة الديناصور الاقتصادي الأمريكي، فالصين وحدها ثاني أكبر اقتصاد في العالم بناتج محلي إجمالي حوالي 18.5 تريليون دولار، وهو ما يمثل حوالي 15% من الاقتصاد العالمي، تليها اليابان بناتج محلي إجمالي حوالي 5.5 تريليونات دولار، ثم الهند بناتج محلي إجمالي حوالي 3.9 تريليونات دولار.
الناتج المحلي الإسمي الإجمالي لآسيا حوالي 40.65 تريليون دولار، بقيمة شرائية تقدر بحوالي 78.84 تريليون دولار، فآسيا تمثل حوالي 37% من الاقتصاد العالمي عند قياسه اسميًا، وحوالي 72% عند قياسه بتعادل القوة الشرائية.
وتكافح أفريقيا وأمريكا اللاتينية للانعتاق من الهيمنة الإمبريالية، وتوشك على الوصول للتحرر الاقتصادي، الأمر الذي سيهز العالم.
وإذا أتينا للعالم العربي، نجد أن الناتج المحلي الإجمالي للدول العربية مجتمعة نحو 3.5 تريليونات دولار بقيمة شرائية إسمية تبلغ 8.4 تريليونات دولار، وهذا يجعل الاقتصاد العربي يشكل نحو 3.2% من الاقتصاد العالمي عند قياسه بالقيمة الإسمية، والشعب العربي ليس سعيداً بالعربدة الأمريكية، ولن يسكت طويلاً على حراسة أمريكا لتخلفه وتبعيته كثيراً.
فالانفجارات العربية في وجه الصلف الصهيوني المدعوم أمريكياً لن تتوقف حتى تتخلص من كل صور الاحتلال والهيمنة والنهب.
تحدي «البريكس»
تمثل دول «البريكس» (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا) مجتمعة قسماً ضخماً من الاقتصاد العالمي، حيث تمثل مجتمعة حوالي 35% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي عند قياسه وفقًا لتعادل القوة الشرائية، وهذا يجعلها قوة اقتصادية رئيسة على الساحة العالمية، متجاوزة دول مجموعة السبع من حيث الناتج المحلي الإجمالي المجمع، و«البريكس» لم تنشأ إلا لتحدي الهيمنة الأمريكية على الاقتصاد العالمي بوسائل كثيرة أهمها الدولار، مرجع كل الأسواق العالمية.
إلغاء الدولرة
بالإضافة إلى أهدافها المعلنة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية المتمثلة في التعاون الاقتصادي وتمويل التنمية والتنسيق السياسي والتبادلات الاجتماعية والثقافية، يأتي هدف إلغاء الدولرة كأخطر الأهداف التي ستعيد تشكيل العالم.
فإزالة الدولرة تعتبر خطوة في غاية الأهمية نحو تحقيق السيادة المالية والحد من الاعتماد على عملة مهيمنة، وقد اكتسبت هذه الحركة زخماً كبيراً مع سعي البلدان إلى تقليل تعرضها للعقوبات الاقتصادية المحتملة وتقلبات قيمة الدولار، والدافع وراء إزالة الدولرة متعدد الأوجه، ولكن الأمر في نهاية المطاف يتعلق بتحقيق السيادة المالية والحد من الاعتماد على عملة واحدة مهيمنة.
ويعد تطوير أنظمة الدفع البديلة، مثل «CIPS» ونظام الدفع «Mir»، إنجازاً كبيراً، ومن المتوقع أن تعمل مبادرات مثل «BCBPI» وأنظمة الدفع الإقليمية الأخرى على تعزيز المشهد المالي العالمي.
إن التحديات والاعتبارات المرتبطة بإزالة الدولرة كبيرة، ولكن الفوائد الطويلة الأجل لتحقيق الاستقلال المالي والحد من التعرض للصدمات الاقتصادية المحتملة تجعل المسعى يستحق العناء.
فشل في قراءة الواقع
الأدلة متواترة على أن البساط يسحب من تحت الأرجل الأمريكية التي شبعت انتهاكاً لكل الأعراف والقوانين والقيم الإنسانية، والمحاولات لا تتوقف للانعتاق من الهيمنة الأمريكية الظالمة.
ولكن كثرة من صناع القرار السياسي في الولايات المتحدة و«إسرائيل» مقتنعون بأنهم قادرون على الاستمرار في الهيمنة والسيطرة عن طريق إثارة الفوضى والفراغ في السلطة، فالفوضى والفراغ سوف يؤديان، من وجهة نظرهم، بطريقة أو بأخرى إلى ظهور دول ومجتمعات على هوى حكام «إسرائيل» اليمينيين، ولم يدر هؤلاء، كما يقول ثاناسيس كامبانيس وهو زميل بارز في مؤسسة «سينتشري فاونديشن»، أن التاريخ يثبت العكس، فالاحتلال المباشر قد يبقي المقاومة تحت الرماد لفترة من الوقت، والتدمير الكامل قد يهزم التمرد، ولكن القتل والتشريد الجماعيين لن يكفيا أبداً لحل المشكلات السياسية والأمنية التي تواجه «إسرائيل»، بل من المرجح أن يؤدي إلى مضاعفة هذه المشكلات في الأمد البعيد.
إن الحرب الشاملة تحقق أحياناً أهدافها المعلنة، يضيف كامبانيس، ولكن بتكلفة مروعة في الأرواح، وحتى إذا حققت «إسرائيل» نصراً عسكرياً مطلقاً في هذا العام أو العام المقبل، فإنها بذلك تلحق جرحاً عميقاً سوف يستمر لعقود من الزمان.
أصوات عاقلة
يرى كامبانيس أن صناع السياسات في الولايات المتحدة واهمون، فالفوضى والفراغ في السلطة ليس من شأنهما أن يؤديا إلى ظهور دول ومجتمعات تلتزم بتفضيلات سياسات حكام «إسرائيل» اليمينيين، ولذلك ينبغي للولايات المتحدة أن تدعو إلى وقف فوري لغزو لبنان، وأن تنهي «إسرائيل» حربها في غزة، فالولايات المتحدة تستطيع إقناع «إسرائيل» من خلال الحد من شحنات الأسلحة الهجومية.
وإذا توقفت أمريكا عن المشاركة المباشرة في عمليات تسليم القنابل لأكثر العناصر تطرفاً في حروب «إسرائيل»، فقد تنهي الولايات المتحدة مشاركتها المباشرة في الحرب الإقليمية الناشئة.
ومع ذلك، يبدو أن صوت العقل في كل من «تل أبيب» وواشنطن مفقود، ويبدو أن الولايات المتحدة تتجه نحو جولة جديدة من الحروب الطويلة.
___________________________
1- https://www.worlddata.info/largest-economies.php.
2- https://www.thebalancemoney.com/roaring-twenties-4060511.
3- Global GDP 1985-2029 | Statista.
4- https://www.mckinsey.com/mgi/our-research/asia-on-the-cusp-of-a-new-era.