في غزة، تبرز النساء كأيقونات للصبر والثبات، يقدّمن أروع الأمثلة في العفة والشجاعة، متمسكات بمبادئهن وقيمهن، يشددن من عزائم شعبهن، ويقفن درعًا منيعًا في وجه العدوان.
على مدار عام من الجرائم الصهيونية في غزة، أظهرت هؤلاء النساء قوة لا تضاهى، وتحمّلن أعباء الفقد والألم بقلوب مفعمة بالإيمان، ممتثلات لقوله تعالى: (قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة 51)؛ قال القرطبي في تفسيره للآية الكريمة: أي ما كتب لنا في اللوح المحفوظ، وقيل: ما أخبرنا به في كتابه مِنْ أنَّا إما أن نظفر فيكون الظفر حسنى لنا، وإما أن نقتل فتكون الشهادة أعظم حسنى لنا(1).
أم عبدالسلام هنية.. جدة الشهداء
الحاجة أم عبدالسلام هنية، التي لقبت بأم وجدة الشهداء، وهي زوجة القائد الفلسطيني إسماعيل هنية، رئيس المكتب السياسي السابق لحركة المقاومة الإسلامية (حماس)، الذي استشهد باستهداف صهيوني لمكان إقامته في العاصمة الإيرانية طهران حيث شارك في مراسم تنصيب الرئيس الإيراني.
عند استقبال جثمانه، وقفت أم عبدالسلام شامخة رغم ألم الفراق، وودعته بكلمات مؤثرة تحمل صدق العشرة والإيمان العميق، قائلة: «يا حبيبي في الدنيا والآخرة، وأنت سندي في الدنيا والآخرة».
الحاجة أم عبدالسلام لم تقدم زوجها وحسب، بل قدمت 3 من أبنائها، و4 من أحفادها شهداء، فضلًا عن شقيقها وأسرته، وابن شقيق آخر، لتصبح بحق رمزًا لعائلة فلسطينية تقدم الغالي والنفيس في سبيل الله والوطن، محتسبةً ومثابرةً أمام ألم الفراق وفجيعة الفقد.
أم مالك بارود.. قضة نضال مختلفة
أما أم مالك بارود من مخيم الشاطئ، فهي قصة نضال مختلفة، حيث أخذ العدوان الصهيوني منها كل عزيز.
فقدت أم مالك زوجها، الذي أُسر في بداية الحرب ولم تعرف عنه شيئًا حتى الآن، كما استشهد 4 من أبنائها، بينهم ابنتها الصحفية حنين محمود بارود.
عند فقد اثنين من أبنائها، وقفت بإيمان قوي قائلة: «اللهم خذ من دمائنا حتى ترضى.. نفتخر ونحتسبهم عند الله شهداء، الحمد لله».
وعندما عثرت على جثمان ابنتها بعد ساعات من البحث المؤلم، وصفت تجربتها المؤثرة مشبهةً إياها بمشهد أمنا هاجر وهي تبحث عن الماء لطفلها في الصحراء.
ورغم قسوة الفقد، أكدت قائلة: «والله لو لم يكن لديَّ أحد، ولو ودعت كل عائلتي، لن نندم، ولن نسلم، ولن نتراجع، ولن نهاجر من شمالنا، وملتقانا الجنة».
وكأنها تردد بحزمٍ رسالة الأم الفلسطينية، قائلة: إن «لدينا قماشًا نكفن به أبناءنا، لكن ما عندنا قماش نرفع به رايات بيضاء»، لتظل كلماتها شهادة على قوة وثبات نساء غزة.
رانيا أبو عنزة.. أم الرضيعين
في رفح جنوبي قطاع غزة، عاشت رانيا أبو عنزة تجربة مؤلمة بعد أن رزقت بتوأميها الشهيدين عقب انتظار دام 11 عامًا.
جاءت الغارة الصهيونية الغاشمة لتقضي على فرحتها، حيث دمرت منزلها واستشهد توأماها وسام، ونعيم، اللذان لم يبلغا من العمر سوى 5 أشهر، واستشهد بجانبهما زوجها، بالإضافة إلى 11 من أقاربها.
كانت رانيا تحلم بأن تحتفل بأول رمضان وأول عيدٍ وهي تحضن توأميها ببراءة وفرح، وتشتري لهما ملابس العيد كأي أُم تحلم بفرحة أطفالها، لكن قسوة الاحتلال حوّلت أحلامها إلى جرح أبدي في قلبها ووجدانها، يروي قصة أُمٍّ لم تنكسر رغم الفقدان.
آلاء القطراوي.. شاعرة ترثي أطفالها
ومن بين قصص الوجع والفراق، تبرز حكاية الشاعرة الفلسطينية آلاء القطراوي التي رثت أطفالها دون أن تودعهم، التي اضطرها العدوان للنزوح إلى الجنوب، تاركةً خلفها أطفالها الأربعة؛ يامن، وكرمل، والتوأمين كنان، وأوركيدا، تحت رعاية والدهم.
انقطعت عنها السبل، ولم تستطع العودة لرؤية أطفالها بسبب إغلاق الطرقات، ليفجع قلبها بخبر استشهادهم جميعًا دون أن تتمكن من احتضانهم أو وداعهم.
كتبت في بيت أشعارها لطفلتها أوركيد:
دعوني أرها ولو مرة واحدة
لأخبرها أن شوقي لها ليس سهلاً
وأن الخناجر أهون في طعنها من جنون الغياب
وأن عيوني في حزنها الملحمي
ضمور جبال
زئير سهول
بكاء أسود
في دمعتي الماردة
دعوني أرَ وجه أوركيدتي فقط مرة واحدة
أعطوا لها رئتي ربما اختنقت
ربما ما استطاعت مناداة اسمي
فكان الركام ثقيلاً عليها
أم أسامة أبو هين.. والدة الشهداء
الحاجة أم أسامة أبو هين، من حي الشجاعية شرق غزة، هي زوجة القيادي م. صقر أبو هين، وقد ارتقى إلى العلا مع أبنائهما الخمسة، وأزواج بناتها الأربع، من بينهم د. رفعت العرعير، وأسامة الحية، ويوسف أبو هين، فضلاً عن عدد كبير من أحفادها.
وفي كلمات مؤثرة، تحدثت بعد استشهاد أبنائها قائلة: الحمد لله، لقد سميت أبنائي على أسماء الصحابة، عبادة بن الصامت، وحمزة بن عبدالمطلب، وأحمد على اسم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأسامة الذي قاد الجيش إلى القدس، لقد ربيتهم على الجهاد، والحمد لله أنهم ماتوا وهم مرابطون ثابتون.
وأضافت: هذه حالنا، نحن مستعدون لتقديم شهداء، ونحن صابرون وصامدون، ولن نغادر هذه الأرض وسندافع عن حقوقنا.
واختتمت بقولها: «نحن سنصمد هنا، وسنصبر، وإن شاء الله سيفرج الله كربتنا».
______________
(1) موقع «إسلام ويب».