ليس جديداً أن يقوم الإرهاب بضرب الكويت، ففي منتصف الستينيات قام «اليسار الكويتي» بعمليات إرهابية بتدبير تفجيرات لبعض المؤسسات الحكومية، وحينها تم الكشف عن الفاعلين، وحوكم البعض، وهرب البعض خارج الكويت.
وفي السبعينيات كانت هناك عمليات اغتيال من نظام «البعث» لمعارضيه في الكويت عندما اغتيل أبرز رموز رفقاء «صدام» وهو «حردان التكريتي» في رابعة النهار أمام المستشفى الأميري في العاصمة الكويت، كما تم اقتحام السفارة اليابانية على أيدي متطرفين فلسطينيين، وفي الثمانينيات كان للإرهاب أكثر من عملية، منها (3) عمليات في عام 1986م، و(5) تفجيرات في عام 1987م، وتفجيران واختطاف لطائرة كويتية (الجابرية) في عام 1988م وقتل فيها مواطنون كويتيون في حينها نتيجة هذه العمليات الإرهابية، وتمت هذه التفجيرات بواسطة أعضاء في منظمة العمل الإسلامي الشيعية، وحزب الدعوة العراقي بمساعدة احترافية من شيعة لبنانيين.
وفي التسعينيات، وكذلك في العقد الأول من هذا القرن الحادي والعشرين، تبنت «القاعدة» بعض عمليات العنف في الكويت وتمت مواجهتها والسيطرة عليها.
يوم الجمعة 26/6/2015م كان يوماً إرهابياً عنيفاً في الكويت؛ حيث تم تفجير مسجد الإمام الصادق بمنطقة الصوابر شرقي الكويت، وقتل في هذا الحادث 27 مواطناً كويتياً، عدا الجرحى، وتبنى تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وسورية (داعش) هذه العملية القذرة.
وبالتحليل المنطقي والعقلي بعيداً عن العاطفة الصادقة في هذه اللحظات، علينا أن ننظر إلى مشهد الإرهاب الذي امتد إلى الكويت الآمنة منذ الستينيات إلى اليوم ونحلله بعمق وروية، وهو ما يتوجب على العقلاء في السلطة والمجتمع أن يقوموا به:
– فقد كان إرهاب الستينيات بيد كويتية تبنت أفكاراً ماركسية وشيوعية ويسارية؛ إيماناً بأن التغيير إلى ما تنشده هذه المجموعة من مجتمع تقدمي لا يكون إلا بوسيلة العنف رغم عدم اقتناع المجتمع بها.
أما إرهاب السبعينيات، فقد كان النظام البعثي يرى في الكويت مجالاً متاحاً لصيد المعارضين، ومتجاوزاً للأمن الوطني الكويتي، ولإحداث ضغط خارجي لعدم إيجاد ملاذ آمن لمعارضيه.
وفي الثمانينيات، كان مفهوم تصدير الثورة الإيرانية وانعكاسات هذا التصدير على الأوضاع الإقليمية التي أدت إلى نشوب الحرب العراقية – الإيرانية مجالاً لمجموعات كويتية شيعية وغير كويتية متطرفة مقتنعة بفكرة تصدير الثورة ونظام ولاية الفقيه، لكي تنفذ عمليات إرهابية للضغط على الكويت لتجبرها على التخلي عن مواقفها العربية والخليجية التي قامت بها لمنع امتداد نار تصدير الثورة إلى الكويت ودول الخليج، ومن جهة أخرى كان النظام العراقي يمارس ضغطه على الكويت لجرها لمواجهة مع قطاعات من الشعب الكويتي، والتدخل في شؤون الكويت الداخلية، فكانت أسباب هذا الإرهاب سياسية مع تنامي انعكاسات الصراع الإقليمي بين إيران والعراق.
أما إرهاب التسعينيات والعقد الأول من هذا القرن، فقد كان على يد «تنظيم القاعدة» الذي نشأ من نتائج الجهاد الأفغاني ضد الاحتلال الروسي بقيادة أسامة بن لادن، وكان الإرهاب عقدياً موجهاً للمصالح الأمريكية في الكويت، فهو مبني على أساس عقائدي وصراع ضد النفوذ الأمريكي في المنطقة، وكان للتيارات السلفية السُّنية المتطرفة دعم غير منظور.
وأخيراً
تأتي التفجيرات التي اعترفت بها «داعش» في بيان لها يوم الجمعة 26/6/2015م لكي تخلط كل الأوراق ما بين أساس عقائدي تكفيري وانعكاس للمواجهة بين المشاريع التي بدأت تتمدد داخل المنطقة من النفوذ الإيراني والتركي و»الإسرائيلي» والتحالف الدولي ضد الإرهاب.
ولكن بالنظرة التحليلية علينا أن نبحث ما البيئة التي ساعدت في إيجاد حيز من الإرهاب في المجتمع الكويتي المسالم والذي لم يعهد على سلطته أو شعبه الاعتداء على الآخرين أو حتى الاحتراب الداخلي فيما بينهم، بل عاشوا قروناً وزمناً طويلاً من الوئام والتفاهم والترابط.
فالإرهاب الذي ضرب الكويت هذه المرة أراد تحقيق هدف سياسي وعقائدي بالشكل الذي يؤدي إلى إشعال فتنة بين المكونين الاجتماعيين؛ وهما «السُّنة»، و»الشيعة»، وفض عرى القوة والتماسك الاجتماعي، ومن المعروف أن الجغرافية السياسية (الجيوبوليتك للكويت) هي جغرافية متواضعة إذا ما قيست بدول الجوار، وأن أي تحطيم للمكونات الاجتماعية في هذه النقطة الجغرافية الصغيرة سبباً سهلاً للسيطرة على النفوذ ومحركات الإرادة والدوافع في المجتمع، بما يسهل وضع الدولة والمجتمع في إطار الاحتراب والسيطرة والتمزق، وهو هدف خطير شاهدناه ناجحاً في العراق وسورية واليمن (بالرغم من عراقة هذه الدول تاريخياً وقوتها البشرية والاقتصادية).
وبالتحليل المنطقي والتتبعي؛ إن جميع حالات الإرهاب منذ الستينيات إلى اليوم كانت تنجح في تنفيذ تلك العمليات نتيجة توافر عدة أمور، منها:
– ارتفاع منسوب الاحتقان الداخلي من التدافع السياسي والخلاف ما بين الدولة والمجتمع حول القضايا الرئيسة للسياسة الداخلية، ووجود حالة ضغط خارجي، واستقطاب سياسي واجتماعي حاد في المجتمع، ففي منتصف الستينيات كان الخلاف حول العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة واستقرار العمل بالدستور وتزوير الانتخابات، وأيضاً كان الخلاف بين المد القومي المنتشي بوهم الانتصارات الناصرية التقدمية وبين استقرار الإمارة التوارثية لتصبح دولة حديثة.
في السبعينيات والثمانينيات أيضاً حل مجلس الأمة مرتين، وتراجع الغطاء الشعبي للسلطة في وجود حالة تصدير ثورة إيرانية وحموة الحرب العراقية الإيرانية ومحاولات التدخلات الصدامية في الشؤون الداخلية للكويت.
وفي التسعينيات والعقد الأول من هذا القرن، كان المجتمع الكويتي خارجاً من صدمة تاريخية نتيجة الاحتلال العراقي للكويت، والتف الشعب حول الشرعية، وبعد التحرير كان المتوقع أن تدار الكويت برؤية جديدة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، ولكن نتيجة فشل الدولة في خطط التنمية والتراجع في الالتزام بمستوى كامل لتطبيقات الدستور والعمل على تفتيت الوحدة الاجتماعية والوطنية من أطراف الصراع السياسي الحكومي والمجلس، واستخدام الإعلام ومختلف الوسائل لدفع المجتمع لحالة استقطاب وانحياز كل لكتلته السياسية والمصلحية، ومع وجود حالة التزام للدولة باتفاقيات أمنية مع الولايات المتحدة والحلفاء، فإن ذلك كان مبرراً لإرهابي القاعدة لاستغلال فرصة اختلال النسيج الوطني ليقوم ببعض إرهابه على أرض الكويت.
وتأتي المرحلة الرابعة للإرهاب في ضوء حالة تراجع من التفاهم الوطني بين الدولة وقطاعات مهمة في المجتمع، فيما يتعلق بملفات السياسة والثروة والاقتصاد وإدارة الدولة ومواجهة الفساد، ومع فشل الدولة في عملية التنمية الحقيقية وانخفاض مستوى التمثيل الحقيقي للرأي الاجتماعي السياسي الشعبي في مجلس الأمة، وأمام تحديات خارجية نتيجة التمدد للمشروع الإيراني في المنطقة والمليشيات الخارجة عن نطاق الدولة في العراق وسورية وتأثيراتها على المنطقة، وقيام الدولة بالتضامن الطبيعي والالتزام القومي في «عاصفة الحزم» للتحالف العربي ودول الخليج في اليمن من جهة، ومن جهة أخرى تنامي التطرف بتمدد التنظيم الإرهابي لـ «داعش» بشكل ما يسمى بدولة الخلافة الإسلامية والتي تعتبر ما عداها من أنظمة هي أنظمة مرتدة مع شعوبها، فكان الوضع الداخلي قد شكل حالة استقطاب سياسي واجتماعي في المجتمع الكويتي، وخصوصاً فيما يتعلق بالمواقف السياسية والاصطفاف المذهبي، وأوجد سيولة من التدافعات الاجتماعية، وجعل قطاعات المجتمع تنكمش كجزر منفصلة عن هدف المجتمع في الاستقرار والوئام والسلام الاجتماعي.
وهنا كانت فرصة للاختراق ومد يد الإرهاب في أقدس مكان وهو المسجد، وفي أقدس شهر وهو رمضان، وفي أقدس يوم وهو الجمعة، وذلك استغلالاً لأقصى حالة التصعيد المذهبي والاجتماعي.
لكن رب ضارة نافعة..
فقد أثبت المجتمع الكويتي حيويته وأصالته وحقيقته عند الأحداث والملمات، فكان أول ممن وصل إلى مكان الحادث هو أمير البلاد، ثم ولي عهده، وبعدها تتالى المسؤولون في الدولة للتأكيد على دور السلطة والحكومة في تأمين وحدة الشعب الكويتي، وتلى ذلك بيانات ومواقف الجمعيات الإسلامية السُّنية؛ كجمعية الإصلاح الاجتماعي، رائدة العمل الإسلامي السُّني في الكويت، ثم باقي الجمعيات، وتابعت أيضاً الحركات السياسية الإسلامية؛ كالحركة الدستورية الإسلامية والتجمع السلفي، والتكتل الشعبي، وغيرها من الجمعيات السياسية، إصدار البيانات والمواقف لتجذير الوحدة الوطنية وتلاحم الشعب الكويتي في هذه المحنة.
وعادة تأتي الأحداث الجسام لتكشف لنا أجمل ما في المجتمعات وأيضاً تفرز أسوأ ما فيها.
فقد كشف الحدث عن أهم قيمة في المجتمع الكويتي وهي التلاحم وحالة الترابط الحقيقية، والترفع عن الانجرار لحالة صدام مذهبية، كما كشفت عن اندفاع حالة العقل والحكمة للمجتمع على حساب العاطفة السلبية المدمرة.
وفي الوقت نفسه، أفرز الحدث الأسوأ من حالات شاذة من المتكسبين، ومتسلقي الأحداث، وطالبي البروز الإعلامي، والصائدين في المياه العكرة، ومصفي الحسابات السياسية والمذهبية، وأصحاب الأجندات الحقيقية لزعزعة الوئام والسلام الوطني، وهؤلاء كشفهم المجتمع الكويتي وعرف غاياتهم.
والآن بعد تلك المقدمة التحليلية علينا أن نضع بعض التصورات كمحاولة لعرض رأي يساهم في علاج حالة التطرف والإرهاب والصراع الحزبي والمذهبي، وهو ما يجب أن نقوم به، وهو كما يسمى «واجب الوقت».
فالتصور مبنى على ثلاثة مستويات:
المستوى الأول:
التفكيك للحالة الإرهابية والحدث وإعادة تركيب الحل.. وتقوم على ما يلي:
– بيان معلوماتي واستخلاص النتائج لتفجير يوم الجمعة 26/6/2015م وكل مكوناته، وأن تقوم الإدارة الأمنية بكامل واجباتها في اتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية المواطنين وتأمين الدولة.
– تحليل معلوماتي ما إذا كان هذا الحدث ناتجاً عن عوامل ذات بُعد سياسي أو تطرف فكري أو إرهاب عابر للحدود أو بتدبير خارجي لتحقيق أغراض وتوجيه رسائل للمجتمع الكويتي وللسلطة، أو حتى نتيجة عوامل اجتماعية وبيئية، وهنا يأتي دور مجلس الأمن الوطني ليقوم بواجبه وتقديم الحلول والإجراءات على المستوى الأمني والاجتماعي والإجرائي والخارجي, وربما إنشاء مركز للأزمات والمخاطر سيوفي بهذا الغرض.
تثبيت الخطاب الإعلامي الرسمي والشعبي بما يعيد اللحمة الوطنية، ويقلل منسوب الخطاب العاطفي والثأري والتدافعي وبما يحقق الوئام الاجتماعي.
– عدم الاندفاع بالحل الأمني سوى ما يتعلق بإجراءات الرصد والرقابة والمعلومات، والمحافظة على أمن الأرواح والممتلكات، والانتباه إلى عدم الانزلاق لإجراءات تزيد من جرعات التأزم الاجتماعي والسياسي، وتخطي القواعد الدستورية والإجراءات القضائية والحقوقية للشعب الكويتي.
المستوي الثاني:
الشراكة في علاج وتطويق البيئة العامة للتطرف في المجتمع الكويتي.
– ليس بإمكان السلطة والإدارة الأمنية للبلاد حل مشكلة ذات جذور فكرية وتاريخية وظروف بيئة متهيئة لحالة الإرهاب؛ لذا وجب أن يقوم المجتمع بدوره في المساهمة في علاج هذه الحالة الإرهابية، فالشراكة مطلوبة، وأن تصدي الإدارة الأمنية وحدها لتقود الحل فهو إجراء قاصر.
– فهناك فكر متطرف، وهناك سلوك متطرف، وهناك مستويات من التطرف والإرهاب ومجالات متعددة «الديني، المذهبي، العلماني، الحياتي، الاجتماعي…»، فهي شبكة متعارضة في توجهاتها وأصولها الفكرية؛ لذلك وجب التحديد لكل حالة ودراسة أسبابها وبيئتها.
– الشراكة المجتمعية، حيث يجب أن يتصدرها الحكماء والعقلاء وأهل الخبرة وليس من عرف عنهم التأزيم المذهبي والإفتاء الديني غير المقتدر، وأيضاً الدعاة الذين تطمئن لهم نفوس الناس، وأن تضم تلك الشراكة المجمعة الأطياف المذهبية والاجتماعية ككتلة واحدة تفكر وتضع الحلول وتختار على أساس الكفاءة والقدرة لا على أساس الولاء والمصلحة.
المستوى الثالث:
الحل السياسي للحالة الاستقطابية والتي تنامت خلال السنوات الأخيرة الماضية.
– إن المبادرة السياسية في هذه المرحلة ستقود البلاد إلى حالة من الاستقرار والوئام السياسي وإعادة اللحمة الوطنية والشعبية، بحيث لا توجد ما يسمى بحالة «موالاة»، وحالة «معارضة»، وإنما «شعب واحد خلف قيادة واحدة»، وكتلة إصلاح رافعة للتنمية، ورقابة فاعلة على الفساد.
لقد أثبتت الأحداث منذ اختلاف المعارضة مع الحكومة أن الجميع متمسك بشرعية الحكم ومرجعية الدستور الكويتي عام 1962م.
– لذلك يجب أن يكون رمضان شهر مبارك للكويتيين للتجاوز عن أخطاء مارستها المعارضة في خطابها وسلوكها في السنوات القليلة الماضية، وأخطاء مارستها الحكومة في تجاوزها في التطبيقات الدستورية والقانونية والتشاركية، وأن إدماج دخول المعارضة تحت قبة البرلمان لهو خير للدولة وللكويت ولاستقرار البلاد.
– وإذا كانت دماء الكويتيين التي أزهقت غدراً وظلماً يوم 26/6/2015م في مسجد «الإمام الصادق» هي غالية ولا تعوض بثمن، فإن التوافقات التاريخية والتي سينتج عنها بلا شك ألم لكلا الطرفين (الحكومة والمعارضة) لإيجاد مخرج وحل سياسي ليس بأعز وأغلى وأكثر ثمناً من تلك الدماء البريئة.
– إن حلاً سياسياً تحت رعاية أمير البلاد وتوافقاً اجتماعياً بين الكويتيين بات أمراً حازماً وتاريخياً ومعالجة حكيمة وحازمة للتطرف بكل أنواعه، يدعو له كل حكيم وكل كويتي يأمل في وطن مستقر خالٍ من الإرهاب والضغائن والتدافع السياسي والاحتراب الاجتماعي.
نعم لدينا تصور خاص للحل، لكن نحتفظ به؛ لأن الشراكة ووحدة المجتمع وحق السلطة يدعونا للانتظار، فالتوافق في كل الأمور خير، وبإذن الله ستتعافى الكويت من جروحها وتقف صامدة أمام الإرهاب.>