يحدث لي أن أحفظ الكلام عن ظهر قلب، وأن أكرره مرات ومرات، وأن أقرأ معناه في الكتب المتخصصة، وأستمع إلى شرحه من العلماء المتمكنين، وبعد سنين طويلة أقف في لحظةٍ مفاجئة عند الكلام نفسه وكأني أسمعه لأول مرة، وأفهم منه معنىً دقيقاً واضحاً، حتى إني أتعجّب كيف غاب عن فهمي هذا المعنى الجليّ الجليل طيلة هذه السنين! ما السبب؟
لعله أنني لم أرجع إلى نفسي، بل رجعت إلى غيري، ولنفسي عليّ حق مراجعتها وتصويبها ومكاشفتها، والغوص على أسرارها ومثالبها ومعايبها، وصواباتها وأخطائها، وتفعيل قدراتها وملكاتها وتجاربها.
أن أرجع إلى نفسي لا يعني إلغاء الآخرين، ولا تجاهل فضلهم وسبقهم، فمن لم يكن له أول فليس له آخر.
أن أرجع إلى نفسي يعني التخلص الحقيقي من وطأة التقليد الاجتماعي حين يكون حائلاً بيني وبين الحق والخير والفضل.
يعني أن أواجه نفسي بالحقيقة بعيداً عن الضجيج والضوضاء، بعيداً عن الضغوط المحيطة، بعيداً عن العقل الجمْعي وسلوك القطيع؛ الذي يسيرني رغم أنفي.
وجدت الناس حين يسمعون نقدي لبعض المألوف لديهم ينبرون للدفاع، ويشعر كل فرد منهم أنه مستهدف ومقصود فيدافع عن نفسه.
وحين أنتقد نفسي وأجعلها مثلاً يكونون في مواجهة مع أنفسهم، وليس لديهم إحساس بالاستهداف، فيكون النقد مدعاة أن يعودوا إلى أنفسهم ويصارحوها ويتحسسوا مواطن العلة فيها!
ولذا وعظ الله المدعوين بواحدة، واحدة فقط تؤسس لما بعدها: (أَن تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا) (سبأ:46)، أن تكون منفرداً تتفكّر، يعني انعتاقك من سلطة الجماعة الضاغطة المهيمنة الآسرة، ومواجهتك لنفسك دون حواجز أو مؤثرات خارجية.
ولو كتب لك أن تضيف لنفسك شخصاً آخر فستختار أقرب الناس إليك ممن تبوح له بسرك، وتبثه شكواك، وتصارحه بآرائك الخاصة، وتأتمنه على التوجهات والأفكار الجازمة أو المترددة؛ التي تدور في ضميرك ولا تبوح بها لسواه! وهو يفهمك أكثر من أي شخص آخر.
وأن يكون القيام لله فهي محاولة الخلاص من الأهواء، والنزعات، والنزغات، والميول الفاسدة، والتجرّد للحق.. وللحق وحده.
وهذا مقام – وَايْمُ اللَّهِ – عزيز وعظيم.
ومن تحقق به فهو من الناجين السالكين.
وليس الأمر هنا تهويماً روحانياً صرفاً، ولا انتظاراً خالصاً للإلهام، وإن كان فيه شيء من هذا وهذا، ولكنه مقام إعمال تام للعقل: “ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا”، فلولا أنهم عقلاء مكلَّفون ما خُوطبوا، ولا عُوتبوا.
هذا المصطلح “العودة إلى النفس”؛ ربما يكون – والله أعلم – المقصود بقوله تعالى في حكاية قصة إبراهيم الخليل عليه السلام، ومجادلته لقومه، حين سألوه:
– (قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ {62}) (الأنبياء).
فأجابهم:
– (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ {63}) (الأنبياء).
وهنا جاء التعبير الإلهي بالرجوع إلى النفس: (فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ {64} ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ {65}) (الأنبياء).
والأقرب في المعنى أنهم صُدموا من جوابه، وكانوا أقرب إلى الهداية حين حانت منهم لحظة رجوع إلى الأنفس؛ التي طالما هجروها وأهملوها، وشغلهم الصّخب والجدل، والقيل والقال، والرغبة في الانتصار، وموافقة المجموع، والتَّصدُّر والوجاهة عن الاستماع إليها، والإنصات لحديثها الصادق المباشر الفطري!
وسرعان ما ثارت نوازع الإصرار على المألوف الفاسد؛ الموروث عن الآباء والأجداد، والتزام الرسوم المعتادة الحاكمة لسير مجتمعهم.. فكانت “النكسة”.
جميل أن أرجع إلى نفسي كلما شعرت أن مساحة الآخرين توسَّعت في فراغاتها على حساب مسؤوليتي الخاصة وتبعتي الذاتية.
جميل أن أرجع إليها كلما شعرت أنني قطعت طريقاً ثم بحثت عن نفسي فلم أجدها، وأدركت أنني ضيّعتها وتركتها ورائي في ذروة انشغالي بمن حولي، واندفاعي في التبرير والتسويغ والتفلسف غير الجاد!
جميل أن أرجع إلى نفسي كلما أردت أن أعيب أحداً لأجد العيب في فهمي وفي سلوكي، وقد يكون العيب فينا معاً.. فلماذا أعيبه بما أنا واقع فيه وأنسى نفسي؟
جميل أن أرجع إلى نفسي كلما سمعت نقداً لسلوكي الشخصي، أو مجموعتي، أو محيطي، أو مجتمعي، أو أمتي.
ليس شيء من ذلك موصوفاً بالعصمة ولا منعوتاً بالكمال.
وما أسهل أن أعيب الخصوم فأكون الناطق باسم من حولي، المبجّل الممدوح عندهم!
وما أشق أن أنتقد ذاتي أمام الآخرين، أو أنتقد المجموعة التي أنتمي إليها!
وفي الحالين.. ما أصعب أن أكون صادقاً منصفاً موضوعياً ساعياً للخلاص من الغضب ورد الفعل، ومن الحب والميل!
حين أتدرّب على نقد ذاتي فهو ترقية لها وتهذيب، وهو في الوقت نفسه تشجيع لآخر أن يسلك الطريق ذاته ويرجع إلى نفسه؛ ليكون في مواجهةٍ معها، ليس محتاجاً إلى استجماع حججه للدفاع وإثبات البراءة، بل للبحث في ثناياها عن الخلل والزلل.
وقفتُ عند هذه الآية الكريمة أمس، وكأني أقرؤها للمرة الأولى، إنها تضع أيدينا على أهمية الرجوع إلى النفس؛ لنعرف مدى ظلمنا: (إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ {64}).
ولنعرف أن الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها، ولنعرف أن الانتكاس مرتبط بتقليد الجاهلين والغافلين والمعرضين.
وطُوبَى لمن شَغلَهُ عَيبُه عن عُيُوبِ النّاسِ.