رغم العطاء السخي في الدراسات التي عنيت بالسيرة النبوية، ظلّت هنالك حلَقة لم تنل حظها من البحث والدرس والاستقصاء والتحليل، بالمقارنة مع الحلقات الأخرى؛ تلك هي الحلقة الحضارية، أو بعبارة أكثر دقة، محاولة متابعة البُعد الحضاري للسيرة، وتقديم تصوّر متكامل عن معطياته الأساسية.
وعلى الرغم من أن العقدين الأخيرين شهدا عدداً من المحاولات في هذا الاتجاه لا تتجاوز – ربما – أصابع اليد الواحدة، فإن الحاجة لا تزال تتطلب المزيد من المحاولات، من أجل إعطاء هذا الجانب من السيرة حقه، والإلمام بجوانبه كافة.
لقد بشر عصرُ الرسالة بمشروع حضاري، وتمكّن من تنفيذ العديد من حلقاته، ووضع شبكة من الشروط التأسيسية التي مكّنت الأمة الناشئة من بناء حضارتها المتميزة بعد عقود معدودة من الزمن.
ولعل المدوَّنات الأولى لأخباريّي ومؤرخي السيرة كمغازي الواقدي، وسيرة ابن إسحاق، وطبقات ابن سعد، وأنساب البلاذري، وتاريخ الطبري.. إلخ، بإعطائها مساحة واسعة للمغازي – وأحيانًا للرجال أو الشمائل – ضيّقَت الخناق على البعد العمراني أو الحضاري لعصر الرسالة الذي تمكن بعد كفاح مرير من إقامة دولة الإسلام، ووضع التأسيسات الأولى لحضارته المتميزة.
عشرات السنين ومئاتها، ونحن نتحدث عن هذا العصر من الداخل، وبرؤية تجزيئية تتمرْكَز عند الغزوات، والشمائل، والمفردات الفقهية. ولقد آن الأوان لاعتماد «رؤية الطائر» إذا صح التعبير، لاستشراف الملامح الأساسية للعصر، والإنجازات الكبرى لرسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام رضي الله عنهم.
ولا بد، من أجل التحقق برؤية كهذه، من استدعاء المؤرِّخ والمفسر والمحدّث والفقيه والجغرافي وفيلسوف التاريخ والأديب لتوسيع نطاق الفضاء المعرفيّ عن العصر.. هاهنا حيث يصير النصّ القرآني والحديث النبوي الصحيح والممارسة التاريخية لعصر الرسالة التي يقدمها المؤرخ والفقيه، والملامح البيئية التي يقدمها الجغرافي، والخبرة الذاتية والموضوعية التي يقدمها الشاعر أو الأديب، فضلاً عن الدلالات المحدَّدة للكلمات والتعابير التي يحددها اللغوي.. هاهنا المصادر الأساسية التي يكمّل بعضها الآخر من أجل تحديد ملامح المشروع الحضاري الذي وعدت به ومهدت له، ووضعت شروطه التأسيسية، ونفّذت بعض حلقاته، «سيرةُ» رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إننا ونحن نتحدث عن «السيرة» وشروطها المنهجية، يجب ألا ننسى لحظة واحدة أن القرآن الكريم هو الوثيقة «التاريخية» الأكثر أهمية في دراسة العصر ومحاولة الإلمام بنبضه الأساسي وملامحه المتفرّدة. وإنه (أي القرآن الكريم) ينطوي على شبكة خصبة من المعطيات التاريخية التي تحمل مصداقيتها المطلقة، والتي تشكل -بالتالي- نقاط الارتكاز في بنية السيرة حيث يجيء المحدث والفقيه والمؤرخ واللغوي والجغرافي والأديب فيقيم بنيانه عليها.
الالتحام الحميم بين التنـزيل والتاريخ
وبنظرة سريعة إلى «أسباب النـزول» في التفاسير القرآنية والمصادر الخاصة بالموضوع، يتبين للمرء الالتحام الحميم بين التنـزيل والتاريخ. إن المعطى القرآني يرهص، ويصف، ويعقب، وينذر، ويعد.. وهو في خطواته الخمس هذه يمارس تغطية تاريخية للعديد من وقائع السيرة المتشكلة في الزمن والمكان، أي في التاريخ.
ولقد تحدث الشهيد سيد قطب طويلا عن هذه المسألة وهو يكتب مقدماته الخصبة في «الظلال»، عبر تفسيره للسور التي قدَّمت مادة سخية عن العديد من الغزوات والوقائع والمعطيات التشريعية، على مدى عصر الرسالة من بدئه حتى منتهاه. كما تحدث عن طريقة عمل القرآن الكريم في إحداث التغيير، وهو في بدء التحليل ونهايته، تغيير تاريخي ينطوي بالضرورة على بعده الحضاري أو العمراني، بالمفهوم الشامل للكلمة.
لقد كانت حياة الرسول صلى الله عليه وسلم الكادحة وجهده الموصول حتى آخر لحظة، شهادةً حية على قدرة هذا الرجل النبي، على الإنجاز والتغيير بكل ما تنطوي عليه الكلمتان مِن بعد حضاريّ. ولقد جاءت شهادة الباحث الأميركي المعاصر «مايكل هارت» في «المائة الأوائل» تأكيدا لهذا المعنى.
لقد حاول الباحث المذكور أن يستقصي ويدرس بمعيارَي الإنجاز والتغيير، أعظم مائةِ شخصية في تاريخ البشرية… ثم مضى لكي ينفّذ خطوة تالية، باختيار أعظم رجل من بين هذه الشخصيات المائة، وبالمعيارين ذاتهما، فإذا باختياره يقع على محمد صلى الله عليه وسلم فيعتبره أعظم شخصية في التاريخ؛ وذلك في قدرته على تنفيذ إنجاز كبير ومتغيرات انقلابية تنطوي على الديني والدنيوي معًا.
وعندما جاءت السنة التاسعة للهجرة، ونزلت آيات (أو إعلان) براءة في صدر سورة التوبة، لتصفية الوجود الوثَني في جزيرة العرب، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حقّق، وصحابته الكرام رضي الله عنهم على مستوى الفعل التاريخي، المنجزات التالية التي ينطوي كل منها على بُعد حضاري مؤكد:
أولاً: التوحيد في مواجهة الشرك والتعدد.
ثانيًا: الوحدة في مواجهة التجزّؤ.
ثالثًا: الدولة في مواجهة القبيلة.
رابعًا: التشريع في مواجهة العرف.
خامسًا: المؤسسة في مواجهة التقاليد.
سادسًا: الأمة في مواجهة العشيرة.
سابعًا: الإصلاح والإعمار في مواجهة التخريب والإفساد.
ثامنًا: المنهج في مواجهة الفوضى والخرافة والظن والهوى.
تاسعًا: المعرفة في مواجهة الجهل والأمية.
عاشرًا: الإنسان المسلم الجديد الملتزم بمنظومة القيم الخلُقية والسلوكية المتجذّرة في العقيدة، في مواجهة الجاهليّ المتمرس على الفوضى والتسيّب وتجاوز الضوابط وكراهية النظام.
وكانت آيـات القرآن الكريم وأحاديث رسـول الله صلى الله عليه وسلم وتعاليمه قد أرستْ جملة من القيم المنهجية وآليات العمل التي مهّدت للمتغيرات العشرة الآنفة الذكر، ودعمتْها، ووضعت -إلى جانبها- شبكة من الشروط هيأت المناخ الملائم للفعل الحضاري، ومن بين تلك القيم والآليات:
1. المعرفة هي حجر الزاوية.
2. النـزوع إلى الأمام.
3. التحذير من هدر الطاقة.
4. مبدأ الاستخلاف.
5. مبدأ التسخير.
6. التحفيز على العمل والإبداع.
7. مجابهة التخريب والإفساد.
8. التوازن بين الأضداد والثنائيات، وتوحدها.
9. التناغم والوفاق مع الطبيعة والعالم والكون.
10. تحرير الإنسان والجماعات والشعوب على المستويات كافة.
لقد جاء الإسلام لكي يتحرك وفق دوائر ثلاث: تبدأ بالإنسان وتمر بالدولة وتنتهي إلى الحضارة التي سيقدر لها أن تَنْداح لكي تغطي مساحات واسعة من العالم القديم.
لقد كان هدف الجهد النبوي في عصر الرسالة هو التأسيس لحضارة إيمانية تستمد منهجها ومفرداتها من هدي الله سبحانه، وتقوم على لقاء الوحي بالوجود، لمجابهة حضارات الكفر والضلال، وإزاحتها، والتحقق بالبديل الحضاري الملائم للإنسان ووظيفته التعبدية والعمرانية.. البديل المتوازن في مواجهة حضارات الميل والانحراف: ﴿وَاللهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيمًا﴾ (النساء:27).
ويبقى عصر الرسالة منجما سخيا للعطاء وفق هذا المنهج أو ذاك فيما لم يشهده عصر من العصور. وما ذاك إلا لما حققه هذا العصر من تغيير جذري محليًّا وإقليميًّا وعالميا، وعلى كل المستويات، ولما انطوى عليه من قيم وخبرات تملك القدرة على الفاعلية والحضور في كل زمان ومكان.
المصدر: موقع قصة الإسلام (بتصرف).