يقول الإمام الغزالي رحمه الله تعالى “وينبغي أن يؤذن للصبي بعد الفراغ من كُتَّاب تحفيظ القرآن أن يلعب لعبا جميلا يستفرغ فيه تعب الكتاب، بحيث لا يتعب في اللعب، فإن منع الصبي من اللعب وإرهاقه بالتعليم دائما يموت القلب ويهبط ذكاءه وينغص العيش عليه حتى يطلب الحيلة في الخلاص منه رأسا”.
من هذه المقولة الرائعة التي تبين فهم ووعي المربين المسلمين لأهمية اللعب ودوره في بناء شخصية متزنة ذكية قادرة على التعلم، وأيضا محبة للتعلم حريصة عليه، الذي تعلموه من رسولنا القدوة صلى الله عليه وسلم، حيث كان يلعب مع الحسن والحسين ويراهما جابر بن عبد الله رضي الله عنه على ظهره صلى الله عليه وسلم، وهو يمشي على أربع ويقول: “نعم الجمل جملكما ونعم العدلان أنتما”.
وينظم الرسول صلى الله عليه وسلم سباقا لعبد الله وعبيد الله وكثير بني العباس رضي الله عنهم ويقول: من سبق إلي فله كذا وكذا”، قال فيستبقون إليه فيقعون على ظهره وصدره فيقبلهم ويلتزمهم.
وأثبتت الدراسات الحديثة أهمية اللعب كحاجة نفسية مهمة للأطفال حتى سن 12 سنة، وهي أشد عند أطفال ما قبل المدرسة أي ما قبل الـ6 سنوات.
وبعض الدراسات تقول إلى ما قبل سن الـ7 سنوات، أي إن الطفل لكي ينمو نموا سليما من الناحية النفسية لا بد أن يلعب؛ فأهمية اللعب للصغار كأهمية العمل للكبار، وهذا ما دعت إليه السنة الشريفة كما قلنا، ودعا إليه الصحابة أيضا كما ورد في الأثر: “علموا أبناءكم لسبع، وأدبوهم لسبع، وصاحبوهم لسبع، ثم اتركوا لهم الحبل على الغارب“.
وأثبتت الدراسات أيضا أن اللعب بالنسبة للطفل عملية نمو في جميع جوانب الشخصية مثل:
1- الناحية الجسمية:
يساعد اللعب على نمو عضلات الطفل، ويدرب كل أعضاء جسمه بشكل فعال، كما يحقق لدى الطفل ما يعرف بمفهوم الذات الجسمية أي تكوين اتجاهات معينة نحو كيانه الجسمي، وكيفية استخدامه لإمكانياته الجسمية.
وكشفت دراسة أجريت عن العلاقة بين النمو الجسمي والتحصيل الدراسي، فوجد أنه كلما قلَّت الفاعلية الجسمية واللياقة الجسمية والاهتمام بها كلما قل التحصيل الدراسي؛ لذلك فالاهتمام بالتغذية والألعاب الرياضية في هذه المرحلة مهم جدا لإعداده للتحصيل الجيد.
2- الناحية العقلية:
حيث يساعد اللعب الطفل على إدراك العالم الذي يعيش فيه، وعلى أن يتحكم فيه، وقد ربط المربون الأوائل بين اللعب والذكاء، وأدركوا قيمته في تنشيط الأداء العقلي، كما وجدوا علاقة إيجابية بين ارتفاع الذكاء والنمو الجسمي الأفضل.
3- الناحية الاجتماعية:
حيث يساعد اللعب الطفل على تقبل معايير الجماعة وقواعد اللعبة، كما ينمي عنده الحاسة الأخلاقية، فيتعلم السلوك الاجتماعي المقبول من خلال تفاعله مع الأولاد.
4- الناحية العلاجية:
فاللعب يخفف من المخاوف والتوترات التي تسببها الضغوط المفروضة عليه من بيئته، خاصة إذا كان البيت فيه الأوامر والنواهي بشكل مبالغ فيه، ويساعد الطفل على التعبير عن انفعالاته وتصريف الكبت وسائر التوترات النفسية التي تتولد لديه نتيجة القيود المختلفة.
فالطفل في اندماجه في اللعب وتوحده مع أدواره التي يلعبها مع لعبه فيحدثها وتحدثه يحقق علاجا نفسيا كبيرا له، إلى جانب أن المشاركة بين طفلين في اللعب تساعد الطفل المرتبك الخائف، وتهيئه للدخول في علاقة ودودة مع الآخر.
يجمع الطفل من خلال اللعب كثيرا من الحقائق المادية والعلمية التي حوله، فهو يتعلم أن اللعبة تتدحرج إلى الخلف وإلى الأمام، وأن الكرة تتدحرج في كل اتجاه، ويكتشف أن الكرة المصنوعة من المطاط تنط، بينما الكرة المصنوعة من الصوف لا تنط.
الطفل ما قبل المدرسة يذهب للحضانة أو رياض الأطفال الملحقة بالمدارس من أجل أن تنمو مهاراته الاجتماعية، ويتعلم المهارات المناسبة لسنه من خلال عدد من الأنشطة المميزة والجذابة والشيقة التي تتنوع؛ لتوصل إليه بعض المعلومات والمهارات، وليس بغرض الكتابة للحروف والأرقام والكلمات؛ لأن التناسق الحركي ونمو العضلات والعظام لا يصلان إلى المستوى الطبيعي إلا عندما يبلغ الطفل أو الطفلة 6 سنوات، وعندما يصبح قادرا على القيام بمفرده من دون أن تتأثر عضلاته من الجلوس لفترة طويلة أثناء القراءة والكتابة.
وقد أشارت دراسة بريطانية حديثة إلى أن التعليم المبكر في سن أربع أو خمس سنوات يؤثر بالسلب على تعليم الأطفال، واستمرارهم في التعليم.
وأضافت الدراسة أن تعليم الأطفال في سن مبكرة يشجعهم على ترك الدراسة، ويضعف حبهم للتعليم كما هو الحال في إنجلترا وأسكتلندا وأيرلندا الشمالية، وهي البلدان الأوروبية الوحيدة التي تصر على التعليم الإلزامي في سن مبكرة (أربع أو خمس أو ست سنوات)، على عكس باقي بلدان أوروبا، والتي يبدأ فيها تعليم الأطفال في سن السابعة، مما يشجعهم على الاستمرار في الدراسة.
وحذرت الدراسة من المخاطر التي تصيب الأطفال عندما يبدءون دراستهم في سن مبكرة، وأهمها أن المعلمين يفرضون على الأطفال القيام ببعض المهام الدراسية متناسيين قدراتهم على تنفيذها أو رغباتهم في القيام بها.
كما أن الأطفال في سن مبكرة يكونون أقل نشاطا؛ مما يجعلهم في حاجة إلى مزيد من الوقت ليتواءموا مع البيئة الجديدة، على عكس الأطفال في سن السابعة؛ حيث يملكون القدرة على التأقلم مع البيئة الدراسية بدرجة أكبر.
إن التعليم في سن مبكرة يزيد من قلق الأطفال ويوترهم بما يؤثر بالسلب على احترام الذات ويقلل من حبهم للتعليم.
وتضيف الدراسة أن الحضانة وروضة الأطفال التي تستقبل الأطفال في سن مبكرة من (3 إلى 5 سنوات) كما هو الحال في معظم البلدان الأوروبية، تعتبر من أفضل الوسائل لتشجيع الأطفال على الاستمرار في التعليم؛ بسبب الجو الدراسي غير الرسمي الذي يساعد الأطفال على احترام الذات.
ولو جُلنا في الأنظمة الدولية فيما يتعلق بسن دخول الطفل المدرسة الابتدائية، لوجدنا أن (91) دولة تعتبر سن الست سنوات هي السن النظامية لدخول المدرسة الابتدائية، بينما (32) دولة تعتبر سن سبع سنوات هي السن النظامية، وأن (15) دولة حددته بخمس سنوات، ودولة واحدة فقط حددت السن النظامية بثمان سنوات.
إن الخلاف الرئيسي في الدراسات التي أجريت للسن المناسب لدخول المدرسة هو: هل السن المناسب هو الـ6 سنوات أم الـ7 سنوات، وليس أقل من 6 سنوات.
إن المعايش لواقع المدارس الحالية يجد أن الغالبية العظمى منها في الصف الأول الابتدائي يحملون الأولاد من الواجبات والأعباء ما تنوء به كواهلهم الصغيرة، فيصبح الطفل الصغير محبوسا بين أركان أربعة من الصباح وحتى الثانية ظهرا، ينتقل من مادة إلى أخرى، إلى جانب طريقة التدريس المملة وغير المشوقة، وإن وجدت الفسحة فهى لا تتعدى الـ20 دقيقة.
ثم ما إن يعود إلى البيت حتى يعيش هو وأمه في صراع من أجل أن يحل الواجبات المطلوبة، وبين رغبته الطفولية بأن يلعب ويعيش طفولته المسلوبة منه رغما عنه، وهذا كله كما قلت في بداية حديثي بمقولة الإمام الغزالي يرهق العقل ويذهب النشاط والذكاء ويدعو للهروب من المذاكرة بكل الطرق الممكنة، ويدعو للفتور من الدراسة مستقبلا.
والملاحظ أن المدارس التي تستخدم الأنشطة التربوية والأساليب الممتعة لتعليم الأطفال، وتستخدم الوسائل التعليمية المتنوعة أيضا، وإن خف الضغط على الأطفال وأحبوا التعلم فإنهم مطالبون أيضا بواجبات مدرسية نظرا لضخامة المناهج وثقلها، لذلك تتكرر قصة الضغط من جانب المنزل، لهذا لا بد كما أخبر الغزالي من أن الأم وهي التي تستطيع أن تعطي الطفل الأوقات المناسبة للعب وعدم إثقاله بالواجبات المدرسية في سن مبكرة .
——
* استشاري في الإرشاد النفسي والأسري، والمقال منقول عن موقع “مستشارك الخاص”.