إننا حين نتحدث عن التغيير الذي يرنو إليه الدعاة اليوم، نجد أنه ليس تغييراً على المستوى الفردي أو الإقليمي، وإنما المقصود بكلمة التغيير بالنسبة له كمسلم عالمي هو التغيير الحضاري الكلي، الذي يبدأ من بلاد العرب والمسلمين ويمتد ليشمل حضارة عالمية تدين للإسلام فكرياً وثقافياً، ليس من باب فرض الهيمنة والقوة، وإنما من باب المسئولية التي يحملها لصاحبها مشروع الهداية الذي يحمله للناس كافة.
ماذا يعني فقه الواقع
لن تستطيع أن تخطو بقدمك صوب الاتجاه الصحيح إلا إذا رأيت وعلمت وفقهت جيداً أين أنت، وما هي مقوماتك وما هو حجمها الحقيقي، وما هي حقيقة الظروف التي تحيط بك، وإلى أي اتجاه تود المسير وذلك باختصار هو معنى الواقع.
وإن علم الواقع ليس بالعلم الجديد وإنما هو علم قرآني تحدث فيه كتاب الله بصورة صريحة ومباشرة حيث يقول ربنا: {والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب} [النور: 39].
وهنا فرق القرآن بين الواقع “الحقيقي”، والواقع “المتوهم” والذي قد يبني عليه الداعية خططاً وأهدافاً ووسائل ينبني عليها نتائج قد تودي بالحركة الإسلامية كلها لعشرات السنوات وتكون هي في ذاتها عبئاً ضخماً على العمل الإسلامي وذلك لسبب واحد وهو عدم العلم بدقة للواقع الذي تحياه الأمة والحركة على السواء.
ففي الآية الكريمة فرق الله سبحانه بين السراب الذي تراه العين واقعاً وتحسبه ماء، بل وترفض أن تصدق غير ما تراه، في حين أن الحقيقة أن ذلك مجرد وهم وخداع بصري.
وفي حقل الدعوة والتغيير والبناء الحضاري غير مسموح لذلك الخطأ الذي قد يكون نتيجته أرواحاً بريئة تحصدها أسلحة وسجون الطغاة، وقد تكون نتيجته عداءً عالمياً للفكرة ككل يدفع ثمنها كل العاملين في الحركة الإسلامية، والواقع ثابت لا يتغير كالسراب الذي يبتعد كلما اقتربنا منه فنجد أن الأهداف لا تتحقق، بل تبتعد كلما سرنا منها خطوات.
والوقوع معناه الحدوث الفعلي، يقول الله عز وجل وليس لقول الله رد {إذا وقعت الواقعة * ليس لوقعتها كاذبة} [الواقعة:1-2] أي وقع يوم القيامة، ويوم القيامة لم يحدث بعد، لكن إرادة الله حين تقرر الفعل فلن يوقف حدوثه شيء، فيصير وكأنما وقع بصيغة الماضي، ويكون “واقعاً” بالفعل، ويقول سبحانه: {وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض} [النمل:82].
وأما كلمة “فقه” فهي تعني فهماً يتوصل إليه بعلم شاهد إلى ما هو غائب، فيصير “فقه الواقع” هو المعرفة الكاملة الشاملة بكل ما يحيط بواقع الأمة سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً سواء أكان محلياً أو عالمياً.
ويرى الشيخ القرضاوي أن الواقعية في الإسلام تعني «مراعاة واقع الكون من حيث هو حقيقة واقعة، ووجود شاهد، ولكنه يدل على حقيقة أكبر منه ووجود أسبق من وجوده، وهو وجود الواجب لذاته، وهو وجود الله الذي خلق كل شيء فقدره تقديرًا»، وهي من خصائص الإسلام.
وعلى سبيل المثال لتقريب المعاني التي يجب أن يحيط بها الداعية ما ورد في كتاب الله عن توضيح “واقع” الكافرين والمنافقين وقد يبدو للناظر عكس ما يظهرون فيقول رب العزة مبيناً حقيقة دواخلهم:
{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا} [التوبة:49].
{الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} [التوبة:67].
فمن يطلب الاستئذان وإعفاءه من الجهاد، فظاهر الأمر أنه يخشى الفتنة، لكن واقع الأمر أنه مخادع والفتنة سقط فيها بكذب إدعائه وأمثاله.
هذا عن الواقع المحلي، وإلزام المؤمنين بمعرفة واقع ما يدور داخل صفوفهم؛ حتى لا يؤتوا من الداخل.
وأما المعرفة بما يحيط بالأمة من ظروف، فيظهر في علم النبي صلى الله عليه وسلم بما يدور حوله حين اختار الحبشة مهجراً للصحابة الأوائل فيقول: “إن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد”.
وعلى المستوى الشخصي نجد النبي عليه الصلاة والسلام يراعي اختلاف الواقع الفردي لكل مسلم، فنجده يجيب على السؤال الواحد بأجوبة مختلفة حسب السائل.
فمن المؤمنين حين يسأل عن خير العمل يقول له رسول الله: “لا تغضب” (رواه البخاري) ثم يكررها كثيراً، ويقيني أن هذا الصحابي كان سمته سرعة الغضب، وآخر يسأل عن: أي المسلمين خير؟ قال: “من سلم المسلمون من لسانه ويده” (متفق عليه).
كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا: أي الناس أفضل؟ فقال: “رجل يجاهد في سبيل الله بماله ونفسه، قال: ثم من؟ قال: مؤمن في شعب من الشعاب يعبد الله ربه ويدع الناس من شره” (متفق عليه).
واختلاف الجواب ليس تناقضاً، وإنما هو مراعاة واقع السائل ومواطن تقصيره أو احتياجه.
أهمية فقه الواقع للقائمين على التغيير الحضاري
إن أهمية دراسة هذا العلم بالنسبة للقائمين على الإصلاح والتغيير تتبلور في كونهم يحتاجون للتخطيط المستقبلي قصير وطويل الأجل، والخطوة الأولى في التخطيط وضع هدف عام وأهداف مرحلية، ثم “رفع الواقع”، وإذا كان الواقع غير معلوم بشكل كلي، فالهدف الموضوع سيكون هدفاً وهمياً كسراب لا ينتمي لحقيقة واقعة، فكيف إذن تنجح مهمة بغير هدف واضح وخطة مبنية على معطيات سليمة.
وواقع الأمة لا يقدر عليه فرد واحد، ولا فئة واحدة، وإنما الواقع المعني يجب أن تقوم عليه مؤسسات متخصصة كل في شأنها؛ كي تستطيع أن تحيط بواقع العالم اليوم بعدما تشعبت الاهتمامات العالمية وتعقدت، ولذلك فالتخصص والفكر والعلم هي أنشطة ضرورية وملزمة للعاملين في الحركة يجب أن تستكملها لتستطيع أن تحيط بما حولها علماً ودراية بما يكفي لمعرفة واقعية شاملة.
وبذلك نرى أن القائمين على التغيير إن لم ينتبهوا لهذا العلم ويتعلموا من سيرة نبيهم والخلفاء الراشدين من بعده، فنحن كمن يزرع البحر، فقدنا البذرة والثمرة على السواء.
ويجب كذلك على المهتم بهذا العلم أن يبني علمه على أسس شرعية، مستمدة من الكتاب والسنة، والأهم في هذا المضمار هو علم العقيدة لنفقه مبدأ الولاء والبراء، وعليه تبنى العلاقات بين الأمم والشعوب، وبعلم العقيدة نفهم حدود الإيمان وضوابطه، والخوف، والرجاء، والتوكل، وحقيقة النصر والهزيمة، ومن كتاب الله ندرك سبل المجرمين وأساليبهم، وما يجب تجاه ذلك، ومن سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم نبني أسس التعامل مع الواقع الذي نعيشه، دون إفراط أو تفريط.
وللحصول على هذا العلم هناك قواعد وثوابت يجب أن يلم بها المهتم بهذا العلم وهي:
ــــ أن يقرأ القرآن ويتعلمه كما تعلمته الفئة المؤمنة الأولى، والقرآن به من الشمول ما يشبع رغبة المتعلم والمتفقه والباحث والداعية، ويجب أن يتخذ مكانته التي تليق به في إنقاذ ذلك العالم الذي يكاد يهلك ذاته.
ــــ سعة الاطلاع، فالمتقوقع الذي لا يعلم ما يدور حوله لا يصلح حتى لإدارة منزل، فيجب أن يكون عالماً بما يدور حوله داخلياً وخارجياً وأن تكون مرجعيته في الفهم وتفسير الأحداث هو القرآن والسنة الصحيحة.
إن واقع العالم اليوم يقول: إن الحضارة المادية سوف تفني نفسها، وإن الإنسان المادي سوف يدمر ذاته إن لم يتغمده الله برحمة الإسلام وبيقظة المسلمين الذين يحملون على عاتقهم أمانة الشهادة، وأمانة التبليغ، وإن لم يفطن دعاة اليوم لتلك الحقيقة فتلك كارثة سوف تدخل البشرية في صراع مدمر مع ذاتها، لقد حاول الغرب للجوء للكنيسة ليقوم بعملية موازنة بين المادة والروح، لكن الكنيسة لم تشبع روح الإنسان ولا عقله بالدين المحرف، ولم يعد للعالم ملجأ سوى دين سماوي يقدر قيمة العقل، ويحترم الروح والأخلاق، ويطمئن الإنسان بوجود إله عادل ودين شامل يضمن له سعادة الدارين.
إن المستقبل لهذا الدين، والحضارة القادمة هي حضارة الإسلام، وهي بداية حقبة تاريخية عادلة، إن الأرض لله يورثها عباده الصالحين، والوارث لا يعني أنه يحمل ميراثه ويرحل، وإنما يرث ليدير ميراثه، فالمستقبل للإسلام، والحكم لله وحده، وإن لم نفقه واقع ديننا وواقع عالمنا فلنتركها لمن يفعلون حتى لا نكون نحن أنفسنا عبئاً وعبثاً عليها.
المصدر: بصائر تربوية.