تحدثنا في المقال السابق عن أهمية الفراسة في حياة المسلم بصفة عامة، وحياة التاجر بصفة خاصة، ومن الآيات الكريمة التي تدور حول هذا المعنى قول الحق سبحانه وتعالى مخاطباً النبي صلى الله عليه وسلم ﴿وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ﴾ (سورة محمد: آية30) فالأول: فراسة النظر والعين والثاني: فراسة الأذن والسمع، وقال تعالى ﴿تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ﴾ (سورة البقرة: آية 273)، وهذه الآيات الكريمة تدل في جملتها على فائدة الفراسة في معرفة أحوال الناس.
وقد عرضنا قصة للنوخذة عبدالوهاب عبدالعزيز العثمان رحمه الله تبين فراسته وذكاءه، وفي هذا المقال بإذن الله نعرض قصة أخرى للنوخذة عبدالوهاب عبدالعزيز العثمان والتي أوردتها في كتابي “النوخذة عبدالوهاب عبدالعزيز العثمان: ريادة عائلية وتميز إنسان ص 140 – 145 .
وفيها أن من عجيب فراسة النوخذة عبدالوهاب عبدالعزيز العثمان ما يرويه النوخذة عبدالله إسماعيل إبراهيم ما شاهده بنفسه عندما زاره النوخذة عبدالوهاب العثمان، وهو يستعد للرحيل من الكويت، في أحد “طرشاته” (سفراته) فسأله: “من الذي ضم هذا البحار؟” ـ مشيراً إلى أحد البحارة ـ فقال له النوخذة عبدالله: “لعله المجدمي فلان”.
وكانت العادة في مواسم السفر أن يعهد إلى المجدمي ـ وهو بمثابة رئيس البحارة ـ أن ينتقي من يشاء ويرشح من يراه مناسباً لتكوين طاقم السفينة بحكم خبرته وسؤاله عن أحوال البحارة ومهارتهم.
فقال النوخذة عبدالوهاب: “اتركوه .. هذا ما يصلح لكم” هكذا بدون مقدمات، فلم أتردد هذه المرة بقبول كلامه لأنه قد يرى ما لا أرى، ولكني استدركت قائلاً له: “ولكن يا بو عثمان .. أعطيناه السلف ولا يزال في ذمته لنا”، فقال: “الله يعوضكم خير ..اتركوه”.
ويستأنف النوخذة عبدالله إسماعيل: “فامتثلت الأمر، وبشكل طبيعي ضم نواخذة آخرون هذا البحار لما عرض نفسه عليهم، وما هي إلا أيام وتوجهت السفن الكويتية إلى شط العرب لتحميل التمور تمهيداً لنقلها –كالعادة- إلى سواحل الهند الغربية.
وسرعان ما وصلتنا أخبار ذلك البحار ومشاكله اليومية، وكانت المفاجأة لي بأن ذلك البحار كان شارباً للخمر، وكان يترك السفينة كل ليلة بعد انتهاء تحميل التمور، ويذهب إلى العشار ليعاقر الخمر هناك، ولتحدث المشاكل بعد ذلك كل ليلة”.
فسبحان الله على هذه الفراسة العجيبة التي ألهمها الله تعالى المرحوم النوخذة الكبير عبدالوهاب العثمان، والتي مكنته من معرفة الناس وكشف أسرارهم دون أن تكون له سابق معرفة بهم، والحق يقال أن هذا كان حال الكثير من آبائنا من أبناء الكويت في ذلك العصر، حيث كانوا يتميزون بالفراسة العجبية التي تندهش لها الأسماع، وتعجب من قصصهم الأذهان، وهذا من التوفيق الإلهي لهم، وأحد أهم السمات التى منحها الله تعالى للتجار والنواخذة الكويتيين في ذلك العصر الذهبي لركوب البحر، والتعامل مع أصناف كثيرة من الناس، فكانت تلك الفراسة أحد أهم سماتهم ومقوماتهم للاستمرار والنجاح.
WWW.ajkharafi.com