إن النداءات المتكررة لـ”علمنة” العمل الحركي الإسلامي بعيداً عن السياسة جزء متناسق مع “علمنة” الدين التي يبذل النظام الفكري الغربي جهداً كبيراً في تأسيسه بين المثقفين والساسة وحتى رجال الدين وقادة العمل الإسلامي.
كما أن عزل الأحرار والمخلصين وحاملي الفكرة الإسلامية عن جهاد العمل الوطني الجاد في الإصلاح والتغيير السياسي هدف ترمي له الكثير من القوى المحلية والدولية للسيطرة على مسار المصالح فيما بينها.
إن إعطاء الحق لكل إنسان أياً كان انتماؤه الفكري أو السياسي أو الاجتماعي حق ممارسة السياسة وتأسيس الأحزاب والعمل من خلالها إلا الإسلام السياسي، فعليهم بسبب فشلهم في مرحلة ما أو لموقف سياسي خاطئ أن يتركوا السياسة.
المشكلة ليست في فشل فصائل من العاملين الإسلاميين في ميدان السياسة، المشكلة أن النظام السياسي العربي من جميع جهاته قد حكم منذ ما يقارب 100 عام وهو يفشل فشلاً ذريعاً في نهضة سياسية أو تنموية حقيقية، ومع ذلك لا ينصح بعض الكتَّاب هذا النظام بأن يرحل وينشغل حتى بالتجارة ويترك السياسة!
لقد كتبت عدة مقالات ناصحة أو منتقده أو متطرفة عن الأخطاء الإستراتيجية التي أخطأها ويُخطئها النظام السياسي العربي في منطقتنا، لكن لم يخلص إلى النتيجة أن يترك هذا النظام عن ممارسة لعبة إدارة السياسة الإستراتيجية في المنطقة.
إذن، أين المشكلة؟!
المشكلة ليست بممارسة السياسة.
إذ لا يعقل أن يطلب من حركات إسلامية منتشرة في العمق الاجتماعي وممتدة في جغرافيا المنطقة العربية والإسلامية أن تترك السياسة، تكمن المشكلة في أن الطبقات القيادية أياً كان انتماؤها أو إن كانت في السلطة أو خارجها لا تنتهج نهج الممارسة السياسية الصحيحة والمطلوبة في عالم السياسة المحلية والإقليمية والدولية، ولا تولي أو تفرز وفق الكفاءة المقتدرة على إدارة عمل سياسي يقود الدولة بشكل صحيح، وهذا يقودنا إلى دراسة النتائج لا تشريح المواقف، فنتائج الحرب العراقية الإيرانية مثلاً في الثمانينيات التي وقف ضدها بعض الجماعات الإسلامية أدت إلى إضعاف العراق وغزو الكويت من قبل صدام، وتم خلالها بناء القواعد والاتفاقيات الأمنية مع الولايات المتحدة، في حين أن كل القوى ودول المنطقة كانت تؤيد الحرب التي عارضتها هذه الجماعات.
النتيجة أن موقفها كان صحيحاً، والمنطقة دخلت في مأزق الصدام الحتمي نحو تمزيق العرب وجغرافيتهم.
أما في حرب الخليج الثانية، فلنكن عادلين ومنصفين أن غالبية الإخوان وقفوا ضد غزو صدام للكويت، ومهما كان هناك دعم من إعلام الطرفين لتضخيم موقف على آخر، فالإخوان لا يملكون أكثر من البيانات ومهرجانات الشجب التي مارستها كل الأحزاب العربية الأخرى.
وكان اعتراض الإخوان المعترضين على الاستعانة بالقوات الأمريكية كان اقتراحهم أن تكون قوة عربية لحل الأزمة.
لكن لنعود للنتائج، وإن كنا ننظر في هذه الوقائع بالطبع من زوايا تقدير مختلفة؛ إذ إننا ننظر إلى أهمية تحرير الكويت لأن الكويت كانت ولا تزال بقعة إستراتيجية مهمة، بل ومهمة للنشاط الإسلامي في العالم العربي والإسلامي؛ لذا وجب تحريرها، ماذا كانت النتيجة؟
بالطبع، تحرير الكويت أدى لتحطيم العراق عسكرياً وبسط الولايات المتحدة نفوذها بشكل كامل على المنطقة ميدانياً وخضوع الحالة السياسية لمنطق القوة الأمريكية، ووضع دول المنطقة تبعاً للمجهود الحربي للولايات المتحدة وحلفائها.
وأما الحرب الثالثة التي أيضاً عارضها الإخوان التي شكل الأمريكيون والدول العربية فيها حلفاً كان نتيجته إسقاط العراق نهائياً تحت تفاهم النفوذ الإيراني الأمريكي وإشعال المنطقة بحروب المليشيات المتطرفة الطائفية السُّنية والشيعية، وكشف الدرع الأمنية الإستراتيجية حول منطقة دول الخليج للنفوذ الإيراني، والتحامه مع النظام السوري ممتداً للبحر الأبيض المتوسط في قلب بيروت، إذن ماذا بقي للعرب؟ وهل كان الإخوان يفهمون السياسة والإستراتيجيا أكثر ممن بيده السلطة والسياسة؟!
وعندما قامت الثورات العربية في مناطق الظلم والطغيان في بعض بلدان جغرافية العرب، ودعمها الإخوان، ووجهت بثورات مضادة مدعومة من النظام السياسي العربي، فهل نتائج هذه المواجهة التي أديرت بتوافق مع النظام الدولي بطريقة ما، هل كانت من صالح استقرار المنطقة وشعوبها؟ وأين العقل السياسي من غير الإخوان؟ ألم تتمزق المنطقة وتتأسس فيها كتلة نظام عربي يعمل بشكل غير مفهوم لسيطرة إيران و”إسرائيل” على المنطقة؟
وهل منطق إزاحة الإخوان عن السياسة يستدعي كل هذه الكلف السياسية والاقتصادية والبشرية والتغيير الديمجرافي كله من أجل إزاحة الإخوان عن ممارسة السياسة؟
إن هذا يجعل المثقف الواعي أن يعيد دراسة تقدير الموقف بشكل صحيح معتمداً على النتائج لا على المواقف.
وأتفق مع بعض الإخوة الأعزاء على أن السياسة مجال احتراف لا هواية، وأن من يريد ممارسة السياسة عليه أن يكون محترفاً ويؤسس احترافه على كفاءة واقتدار عملي، وألا تترك هذه البضاعة لكل أحد، وعلى جماعات الإسلام التي تُمارس السياسة أن تحترفها بشكل صحيح وناضج ولا تتركه لقادة لا يستوعبون الواقع.
لقد فشل الإخوان في إدارة الدولة في مصر بعد الثورة، وهذه نتيجة حقيقية لا تُنكر، لا بسبب الفكر السياسي للإخوان، وإنما بسبب العجز القيادي والجمود التنظيمي، ويجب أن يترك الفاشلون العمل للكفاءات المقتدرة في العمل السياسي، ولكن لا يمكن أن يتم التجاوز على أكبر جماعة إسلامية في التاريخ الحديث ويطلب منها أن تنزوي في المساجد والجمعيات الخيرية لأنها فشلت في مرحلة زمنية، إذ إننا عرفنا من كتاب الله هزيمة المسلمين في “أُحد”، ولكن لم يترك المسلمون الجهاد لأنهم هزموا في معركة، وإنما التوبة وتصحيح الأخطاء واجب.
والأمر الآخر، وهو هل نجح الإخوان في مهمتهم كما عبر عنها بعض الكتَّاب المخلصين لهم؟
أعتقد أنهم نجحوا جزئياً، وتبقى أن يُكملوا مهمتهم، لكن ليس وحدهم، فأصل المهمة أساسها مواجهة المشروع الغربي الذي دخل المنطقة منذ إصلاحات وغزو نابليون لمصر الذي هدفه تغيير هوية المنطقة من إسلامية لتصبح تحت سيطرة الفكر الغربي تشريعياً وسياسياً واجتماعياً ليسهل السيطرة على مواردها وإمكاناتها وتعجز عن استقلالها وسيادتها ونهضتها وتكون وعاءً استهلاكياً لكل منتجات الغرب، ولذا فإن المواجهة كانت جهادية في بدايتها، وبعد إخمادها تحولت إلى إعداد فكري وتربوي، ومنها تأسس العمل السياسي.
في حين أن النخب التي أسسها الغرب فكرياً أنتجت جيلاً سياسياً يُؤْمِن بالعلمانية الغربية، وينسجم ويتكيف مع مطالبه؛ ولذلك تم تسليمها إدارة الحياة والسياسة، والناتج هو تخلف وتمدد للطغيان، وتبعية متواصلة، ومع امتداد الزمن وضعف النظام السياسي أصبح اختراق الثقافة والمجتمع العربي في هويته ليصبح اليوم خامة جاهزة للتغريب الكامل، كما حدث في المجتمعات الأخرى عندما خضعت بكامل هويتها للنظام الثقافي الغربي، ومثال على ذلك اليابان، فقد حدثني أحد الإخوة المفكرين والناشط في ميدان تحليل الهوية والمجتمع، أن سرطان الثدي بين النساء في اليابان قد انتشر بعد الحرب العالمية الثانية بشكل كبير، وعند دراسة نتائج التحليلات الطبية تبين أن 80% منها بسبب تغير ثقافة الأكل اليومي من الغذاء الياباني إلى الغذاء الغربي الذي غزا الهوية الاستهلاكية للمجتمع الياباني.
إن المجتمعات العربية تواجه هجمة على هويتها وصلت إلى محاولة تمكين الإلحاد والهجوم على ثوابت الدين والقرآن والسُّنة وتغيير واقع المرأة بتغريبها وإطلاق تيار الشهوات والاستهلاك وفق أفق الثقافة الغربية، ولا توجد حماية لمجتمعاتنا من نظام سياسي عربي، بل إن إدارة تغيير الهوية يتم بإدارة نظام سياسي عربي تابع، لذا فالمهمة لم تنتهِ، فمن سيقوم إذن بمهمة الإصلاح في ميدان الفكر والسياسة والمجتمع؟ لا بد من كتل حية في المجتمعات العربية والإسلامية، ولذا فمهمة الجماعات الإسلامية لم تنتهِ، ويجب أن تُمارس دورها في كل المجالات، ولكن عليها أن تتعظ من أخطائها، وأن تبادر إلى تصحيح مناهجها وأساليبها وقياداتها.
لكن من يعيد كل العرب؛ جماعات ودول، إلى وعي السياسة وفهم الإستراتيجيا ومنهج العمل بالسنن؟