يصعب على النفس غالباً أن تعتدل في أحكامها على الأشياء وفي تعاملاتها مع الناس، إذ العواطف حاكمة في كثير من الأحيان، والعاطفة لا تحتكم إلى العدل في هذه الحالة بل إلى الحب والبغض، إلى الفرح والحزن، إلى النشاط والكسل، إلى الرضا والغضب وغير ذلك، فلا غرابة إن أطلقنا على شخص ما أنه رجل صالح حين نجد أنفسنا راضين عنه، ونفس الشخص نجده أقرب إلى فرعون عند الغضب منه، وهذا ما حصل لليهود في المدينة حين تغير حكمهم على عبدالله بن سلام رضي الله عنه، فبعد أن كان: خيرهم وابن خيرهم وعالمهم وابن عالمهم، أصبح مباشرة بعد أن علموا بإسلامه: شرهم وابن شرهم.
وعين الرضا عن كل عيب كليلة ولكن عين السخط تبدي المساويا
ومن أجل ذلك رفض الشرع أن يقضي القاضي حين يقضي وهو غضبان، إذ القضاء من أكثر المواطن التي يجب أن يحتكم إلى شرع الله، وفي النوازل يحتاج إلى اجتهاد يبعد فيه عن العاطفة ويسمو بها العقل.
الاعتدال من أنبل المناهج والأخلاق، ففيها يخالف المرء هواه وقلبه، ويسمو بروحه ونفسه، بل إن الاعتدال هو المنهج الرباني الذي أطلقه الله تعالى على هذا الدين حين قال: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (البقرة: 143)، ولو تتبعنا وسطية الإسلام في كل مناحي الحياة لعرفنا عندها أن الدين كله وسط بين غلو وغلو، كثير من هذه الوسطية اليوم صارت أمراً مشتركاً بين الإنسانية كلها وكثير منها انفرد بها هذا الدين العظيم، ولا يسعنا هنا إلا أن نذكر بعض مواطن الاعتدال التي تتعلق في الجوانب التربوية والاجتماعية والأخلاقية.
الاعتدال في التعامل
بين الشرع لنا أن يكون تعاملنا دائماً باعتدال وعدل، وأن نترك الجور والظلم في أحكامنا على الآخرين، لا يعني أن يكون الإنسان سيئاً لكي نتهمه بكل نقيصة، ولا يعني أن يكون العالم فاضلاً حتى لا نخالفه بما نراه خطأ، وليس بغضك لفلان ذريعة أن يجعلك تظلمه وتسيء إليه، يقول الله تعالى: (وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة: 8)، وحين يكون المرء أخاً لك تحبه ولا ترضى عليه فحينها لا بد من نصرته ظالماً كان أو مظلوماً، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين لصحابته حين سألوه: ننصره مظلوماً فكيف ننصره ظالما؟ قال: “تأخذ على يده”؛ أي تمنعه من الظلم، وهذا يخالف المنهج الجاهلي الذي رجع إلينا اليوم في كثير من المشاهد، والذي قال أولهم فيه:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم في النائبات على ما قال برهانا
إن الاعتدال في التعامل مع الآخرين منهج يحتاج إلى مجاهدة وتروّ وتدريب، لا يدعيه المرء بسهولة، من أجل ذلك نهى الشارع أن يقضي المرء لولده أو والده، لأنه يظن أنه قد يحابيه، وكذلك قد يجور عليه كي يدعي أنه لا يحابي فيقع في الظلم.
الاعتدال في تربية الأولاد
كثير من الناس يرون الحق خطاً مستقيماً من شذ عنه قيد أنملة فقط خرج من الحق، والحقيقة أن الحق خلاف ذلك، فهو طريق له حدان لا يخرج المرء من هذين الحدين، ولكن له أريحية في الوقوف أينما أراد داخل الحدين، هذا الأمر ينطبق على كل شيء في هذه الحياة، وكلما كبر الحدان اتسع الحق لأكثر الناس، ولكن مع ذلك يؤسفني أن أقول: إن طريق التربية من أضيق هذه الطرق وحدودها متقاربة وعلى المربي أن يلتزم ما أمكن بين الحدين الضيقين، وكلما خرج عن الحدين وجد قصوراً في تربية أولاده، وهذه الحدود سأذكرها في هذين المثالين:
– لا بد من المربي أن يكون عادلاً في العطايا لأولاده جميعاً، فلا يعطي ابنه أكثر من إخوته وأخواته من دون سبب، ومع ذلك فلا بد من تمييز المتميز بين الأولاد بهدية حتى يجد حماسة لتميزه، ويجد الأولاد رغبة في تقليده، فهذا خط دقيق بين تمييز الولد من دون سبب وبين تمييزه –باعتدال ومن دون مقارنة– حين يستحق التمييز، وقد ثبت في الصحيحين، عن النعمان بن بشير أنه قال: نحلني أبي نحلاً فقالت أمي عمرة بنت رواحة: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاءه ليشهده على صدقتي فقال: “أكل ولدك نحلت مثله؟”، قال: لا، قال: “اتقوا الله، واعدلوا في أولادكم”، وقال: “إني لا أشهد على جور”، قال: فرجع أبي فرد تلك الصدقة، ويكفي أن تعلم صعوبة الخيط بين هذا وذاك هو رد فعل إخوة يوسف على نبي الله يعقوب؛ (إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ {8}) (يوسف)، وكان من شأن السلف أنهم يعدلون بين أولادهم في القبلة التزاماً لأمر رسول الله “اعدلوا بين أبنائكم”، وأما جواز التفضيل والتمييز لتميز أو لسبب فقد قال ابن قدامة في المغني: “فإن خص بعضهم لمعنى يقتضي تخصيصه مثل اختصاصه بحاجة أو زمان أو عمى أو كثرة عائلة أو اشتغاله بالعلم ونحو ذلك من الفضائل أو صرف عن بعض ولده لفسقه أو بدعته أو لكونه يستعين بما يأخذه على معصية الله أو ينفقه فيها فقد روي عن أحمد ما يدل على جواز ذلك”
– إن تجاوز الحد في الاهتمام بالطفل ينتج طفلاً مدللاً؛ وبالتالي رجلاً مترفاً غير جاد في حياة غير عابئ بأمر ولا نهي، وقل العكس، فكثرة تقريع الطفل ولومه وعقابه على كل صغيرة وكبيرة ينتج طفلاً غير واثق بنفسه عدوانياً ناقماً تجاه مجتمعه، لا بد من توازن في الاهتمام بالطفل بين مراقبة تصرفاته والتغافل عن بعض أخطائه، والسؤال هنا: ما معيار التوازن بين هذا وهذا؟ لا شك أن السؤال صعب، وقد يكون الأقرب أنه يختلف من شخص لآخر ومن بيئة لأخرى، من أجل ذلك ذكرنا أن الحق في تربية الأولاد دقيق وتجاوزها من هنا وهنا محتمل وسريع، ولكن لا بأس أن نذكر ضابطاً مهماً يعين الآباء على التوازن في حب أولادهم: الضابط الأول أن الشرع أحب إليه من ولده ونفسه، فكل ما طلبه الولد مخالفاً للشريعة لا بد أن يرفض (وإن كان بطرق سليمة لا بالقرع والتأنيب)، وكل ما فيه مصلحة لدين الولد فلا بد أن يسعى إليه كطلب العلم وإن كان فيه فراق ورحلة، والذهاب إلى المسجد فلا يخشى عليه مثلاً من الشارع، وأصل الضابط قول النبي صلى الله عليه وسلم: “والذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وولده ووالده”، والضابط الثاني هو أن نؤمن أن الموت حق على كل أحد، وأنه لا بد من مفارقة الأبناء، فنحن نربي أبناءنا ليصارعوا الحياة وليواجهوا مصيبات الدنيا لا من أجل أن ينتكسوا عند أول مواجهة ليتم مثلاً، وكذلك العكس فإن الولد قد يموت فلا بد من صبر لهذا الأمر، ولا بد من توازن حتى لا ننتكس عن الصبر في فراقهم، جاءت في وصية جبريل لرسول الله صلى الله عليه وسلم: “أحبب من شئت فإنك مفارقه”.
الاعتدال مع الزوجة
وضع الإسلام منهجاً عظيماً للتعامل فيه مع الزوجة راعى فيه الجانب العقلي والعاطفي والاجتماعي بجملة بسيطة وبحل جميل، استخدم فيها قاعدة إيجاد البدائل والتعايش مع الوضع والإيجابية في النظرة للأمور، كل ذلك في جملة واحدة فصلى الله على من أوتي جوامع الكلم، في صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا يفرَك مؤمن مؤمنة إن كره منها خلق رضي منها آخر”، ويفرك بفتح الراء: يبغض، ففي هذه القاعدة راعى رسول الله صلى الله عليه وسلم البعد العقلي حين أرادنا أن نعمل عقولنا ونعتدل في حكمنا على أزواجنا، فكل إنسان في الدنيا لديه الإيجابيات والسلبيات، ومن أكثر العلاقات حساسية هي علاقة الزوجين، فأرادنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ننتبه للجانب الإيجابي في أخلاق الزوجة أو شكلها أو دينها أو غير ذلك من الجوانب المشرقة، ونحاول أن نركز على هذه الأمور، فحري بالقلب أن يحب من يحمل هذه الجوانب المضيئة، وراعى كذلك الجانب العاطفي، فالتركيز على السلبيات يجعل الزوج يبغض زوجته؛ وبالتالي يبغض العيش معها، ولعل العلاقة تؤول إلى الفراق، فأرانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نبتعد عن البغض عن طريق نشر الحسنات والرضا بها، وفيها أيضاً بعد اجتماعي عن طريق حماية هذه العلاقة من الطلاق والفراق؛ وبالتالي لعل من يتضرر من الطلاق الأولاد مثلاً أو الأسرتان أو غير ذلك.
ولو التزم الأزواج بهذه القاعدة لقلت حالات الطلاق التي كثرت بشكل كبير في زماننا هذا لأدنى الأسباب، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وبعد، فما أعظم هذا الدين الداعي إلى الاعتدال في كل جوانب حياتنا، اعتدال في الحماسة بين التهور والجبن، اعتدال في حب رسول الله بين الجفوة والتأليه، اعتدال حتى في العبادة بين الهجر والوصل؛ “عليكم ما تطيقون فوالله لا يمل الله حتى تملوا”.
____________________
(*) رئيس مركز الحياة التربوي.