إن أخلاق البشر منها ما هو سوي رضي كـ: الصدق والأمانة، ومنها ما هو ذميم ردي كـ: الكذب والخيانة.
ولن يخلو مجتمع مهما صغر من هذين الصنفين.
فإن كانت هذه الأخلاق الذميمة في القاعدة من المجتمع وبدرجات محدودة فإنه يمكن إصلاحه بالتقويم والتأديب والإرشاد.
هذا إن كان المسؤول والحاكم ينهج النهج القويم، ويسلك السلوك المستقيم، وله أعوان على شاكلته يأتمرون بأمره وينهجون نهجه.
عندئذ لن تفشو الأمراض الأخلاقية في المجتمع، وستكون محاصرة، وفي حدودها الدنيا، وسيكون في المجتمع مقاومة ذاتية للانحراف والاعوجاج الأخلاقي؛ فالعقل الجمعي سليم، وكذا الضمير الجمعي يقظ فعَّال، وأدوات الإصلاح حاضرة جاهزة.
أما إن كان رأس النظام فيه اعوجاج وانحراف أخلاقي، فعندئذ سيكون الضرر عظيمًا والشر مستطيرًا والفساد منتشرًا؛ إذ إنه يستقطب أمثاله من المرضى الأخلاقيين، ويُقصي ذوي الأخلاق السليمة المستقيمة.
فيعلو شأن الفساد والاعوجاج، ويتحكَّم السِّفلة في ذوي المروءة والأخلاق.
والدنيا لا تُصلِح فسادها من تلقاء نفسها، أو ما يمكن أن نسميه بـ: الإصلاح الذاتي، بل تحتاج إلى قوة خارجية تعدِّل هذا الانحراف، وتقوِّم مساره.
الإصلاح وتبعاته
وإصلاح الفساد يقع على عاتق كل فرد صالح مستقيم عالم بمآلات الأمور، وهو إن كان لازمًا على الجميع فإنه على عاتق أهل العلم والحزم والرئاسة ألزم.
وعند الرغبة في الإصلاح بله الشروع فيه لن تسلم من الناس، وأعظم الناس ممانعة هم أصحاب النفوذ والسلطان الذين ملكوا وأثروا من الفساد وبالفساد، لذا فإن ردَّات فعلهم عنيفة وقاسية.
لذا حث الإسلام على السعي في تغيير الفساد بقول كلمة الحق، مهما كان من قيلت له، ومهما كانت النتائج والآثار؛ فقد ذكر أبو ذرٍّ وصية أوصاه بها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فقال: أَمَرَنِي خَلِيلِي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِسَبْعٍ منها: «… وَأَمَرَنِي أَنْ أَقُولَ بِالْحَقِّ وَإِنْ كَانَ مُرًّا، وَأَمَرَنِي أَنْ لَا أَخَافَ فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ…»([1]).
والأمر تجاوز قول الحق، بل بلغ مرحلة القيام به وحمله وتحمُّل تبعاته؛ فعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَالَ: بَايَعْنَا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى: السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي المَنْشَطِ وَالمَكْرَهِ، وَأَنْ لاَ نُنَازِعَ الأَمْرَ أَهْلَهُ، وَأَنْ نَقُومَ -أَوْ نَقُولَ- بِالحَقِّ حَيْثُمَا كُنَّا، لاَ نَخَافُ فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لاَئِمٍ([2]).
قال النووي: «مَعْنَاهُ: نَأْمُر بِالْمَعْرُوفِ وَنَنْهَى عَنْ الْمُنْكَر فِي كُلِّ زَمَان وَمَكَان، الْكِبَار وَالصِّغَار، لَا نُدَاهِن فِيهِ أَحَدًا، وَلَا نَخَافهُ هُوَ، وَلَا نَلْتَفِت إِلَى الْأَئِمَّة.
وَأَجْمَعَ الْعُلَمَاء عَلَى أَنَّهُ فَرْض كِفَايَة فَإِنْ خَافَ مِنْ ذَلِكَ عَلَى نَفْسه أَوْ مَاله أَوْ عَلَى غَيْره، سَقَطَ الْإِنْكَار بِيَدِهِ وَلِسَانه، وَوَجَبَتْ كَرَاهَته بِقَلْبِهِ، هَذَا مَذْهَبنَا وَمَذْهَب الْجَمَاهِير.
وَحَكَى الْقَاضِي هُنَا عَنْ بَعْضهمْ أَنَّهُ ذَهَبَ إِلَى الْإِنْكَار مُطْلَقًا فِي هَذِهِ الْحَالَة وَغَيْرهَا»([3]).
ولن يبلغ الإنسان العلا إلا إذا وعظ نفسه قبل أن يعظ غيره، إلا إذا أصلح نفسه قبل طلبه الصلاح من غيره، قال -صلى الله عليه وآله وسلم: «صِلْ من قطعك، وقُلْ الحق ولو على نفسك، وأَحْسِنْ إلى من أساء إليك»([4]).
وموقفك هذا من الإصلاح سوف يجلب عليك المشاكل، ولن تسلم لا في نفسك أو مالك أو عِرضك، يقول حكيم العرب أكثم بن صيفي: «اعْلَمُوا أَنَّ كَثِيرَ النُّصْحِ يَهْبِطُ عَلَى كَثِيرِ الظِّنَّةِ، وَأَنَّ قَوْلَ الْحَقِّ لَمْ يَتْرُكْ لِي صَدِيقًا»([5])، «أي: إذا بالغت في النصيحة اتهمك من تنصحه»([6]).
وقيل: «معناه: أنك إذا بالغت في النصح لصاحبك ظن أنك تريد حظًّا لنفسك، وقال أكثم في موضع آخر: (إذا بالغت في النصيحة فتأهب للتهمة)»([7]).
وفي نفس السياق يقول أويس القرني: «إن قيام المؤمن بأمر الله لم يُبق له صديقًا، والله إنا لنأمرهم بالمعروف، وننهاهم عن المنكر، فيتخذوننا أعداء، ويجدون على ذلك من الفاسقين أعوانًا حتى والله لقد يقذفوننا بالعظائم، ووالله لا يمنعني ذلك أن أقول بالحق»([8]).
أما ذو النون فقد قال: «ثلاثة من أعلام الصبر: التباعد عن الخلطاء في الشدة، والسكون عليه مع تجرع غصص البلية، وإظهار الغنى مع كثرة العيال وجفاء الخلق وهجرانهم له، وقولة الحق فيهم باحتمال الضرر في المال والبدن»([9]).
وقد اعتبر أحد الحكماء أن قول الحق هو أعدل الأقوال؛ فحينما سأل سليمان بن عبد الملك أبا حازم -وهو أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: أي القول أعدل؟
قال: «قول الحق عند من تخافه أو ترجوه»([10]).
فالخوف قد يمنع الإنسان من قول الحق، إذا خاف وقوعه في براثن من لا يقبل سماع كلمة الحق، والذي قد يفتك بقائلها.
وكذا الرغبة في النوال أو العطاء أو من تريد منه أمرًا ليقضيه لك قد يمنعك ذلك من قول الحق.
فليس الترهيب وحده المانع من قول كلمة الحق، فالترغيب كذلك.
وقد عجبت أشد العجب من سيد الطائفة الجنيد -وهو من هو في علم التصوف والسلوك- حينما قال: «مكابدة الصمت أحسن من قول الحق، ومكابدة العزلة أيسر من مداراة الخلطة»([11]).
فالتصوف هو مقام الإحسان، والتصوف يتكلم دائمًا في العزائم لا الرخص، لذا وجدت أن قول العابدة قريشية النسوية خير من قول الجنيد؛ فقد قالت: «مكابدة الصمت أيسر من اعتذار بكذب»([12]).
وكلمة الحق يجب أن تكون خالصة لوجه الله -تعالى، ولا يتم كتمانها لعلة من العلل أو هوى من الأهواء؛ فالبعض لا ينصح إلا المخالف؛ إذ تعظم عنده -دائمًا- أخطاء الآخر، أما أخطاء حزبه أو حركته أو جماعته أو أحبابه فمعفو عنه ومغفور له ومتأوَّلٌ له.
وهذا خلل إذا لم يتم التنبه له يكون الفساد عظيمًا؛ فعَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: بَايَعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- عَلَى إِقَامِ الصَّلاَةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَالنُّصْحِ لِكُلِّ مُسْلِمٍ([13]).
وقد تم تفصيل النصيحة في حديث آخر؛ فعَنْ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: «الدِّينُ النَّصِيحَةُ».
قُلْنَا: لِمَنْ؟
قَالَ: «لله، وَلِكِتَابِهِ، وَلِرَسُولِهِ، وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَعَامَّتِهِمْ»([14]).
«قال العلماء: النصيحة لله: إخلاص الاعتقاد في الوحدانية، ووصفه بصفات الألوهية، وتنزيهه عن النقائص، والرغبة في محابه، والبعد من مساخطه.
والنصيحة لرسوله: التصديق بنبوته، والتزام طاعته في أمره ونهيه، وموالاة من والاه، ومعاداة من عاداه، وتوقيره، ومحبته، ومحبة آل بيته، وتعظيمه وتعظيم سنته، وإحياؤها بعد موته بالبحث عنها، والتفقه فيها والذب عنها ونشرها والدعاء إليها، والتخلق بأخلاقه الكريمة -صلى الله عليه وسلم.
وكذا النصح لكتاب الله: قراءته والتفقه فيه، والذب عنه وتعليمه وإكرامه والتخلق به.
والنصح لأئمة المسلمين: ترك الخروج عليهم، وإرشادهم إلى الحق، وتنبيههم فيما أغفلوه من أمور المسلمين، ولزوم طاعتهم، والقيام بواجب حقهم.
والنصح للعامة: ترك معاداتهم، وإرشادهم، وحب الصالحين منهم، والدعاء لجميعهم، وإرادة الخير لكافتهم»([15]).
وقد يرى البعض أن التناصح بين المسلمين قد يؤدي إلى خصامٍ وكره المنصوح للناصح، وضيقه به، وتجافيه عنه.
هذا إذا كانت النصيحة لغير وجه الله، وكانت بأساليب منفرة لا تراعي طبائع الناس، ولا تعرف كيفية التعامل معها، ولا معرفة مفاتيح القلوب ومغاليقها.
أما إذا كانت النصيحة لوجه الله فإن النصيحة ستكون أخت المودة، قال الإمام علي -كرم الله وجهه: «إن المؤمنين قوم نصحة بعضهم لبعض، متوادون وإن بعدت ديارهم وأبدانهم، وإن المنافقين غششة بعضهم لبعض»([16]).
والناصح الحق هو من يبغي الخير للمنصوح، فمن يضمر للمنصوح الشر فلن ينصحه، وإن نصحه فإنها ستكون عظة شيطان.
ومن نسي ربه وأغرته الدنيا وغرق في ملذاتها فلا تنتظر منه نصحًا؛ لأنه قد غفل عن نصح نفسه، وشرب من خمر الدنيا حتى الثمالة، لذا قال أبو عبد الله المغربي: «من أحب الدنيا فلا ينصحك، ومن أحب الآخرة فلا يصحبك، لا ترج نصح من قد خان نفسه»([17]).
وزكاة حسن الرأي النصح؛ فمن أخلص النصح للناس بارك الله له في عقله ورأيه، يروى عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أنه قال: «إن الرجل لا يزال في صحة رأيه ما نصح لمستشيره، فإذا غش مستشيره سلبه الله صحة رأيه»([18]).
ولا تزال الأمة بخير ما تناصحت فيما بينها، وحاول كل واحد فيها أن يسد الخلل، وأن يقوِّم المعوج، يقول -تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بالله} [آل عمران: 110].
([1]) أخرجه أحمد في «المسند»، (35/327)، ح(21415)، وقال شعيب الأرنؤوط في تعليقه على «المسند»: «حديث صحيح، وهذا إسناد حسن من أجل سلام أبي المنذر -وهو ابن سليمان المزني- فهو صدوق حسن الحديث، وقد توبع، وباقي رجال الإسناد ثقات رجال الصحيح».
([2]) أخرجه البخاري في «الأحكام»، باب: «كَيْفَ يُبَايِعُ الإِمَامُ النَّاسَ»، (9/77)، ح(7199، 7200).
([3]) شرح النووي على مسلم، 12/230.
([4]) أخرجه ابن الأعرابي في «معجمه»، (2/744)، ح(1507) من حديث علي -رضي الله عنه، وقد ذكره الألباني في «السلسلة الصحيحة»، (4/542)، ح(1911).
([5]) معرفة الصحابة، لأبي نعيم، 1/343.
([6]) مجمع الأمثال، للميداني، 1/67.
([7]) جمهرة الأمثال، للعسكري، 2/161.
([8]) المستدرك، للحاكم، 3/458.
([9]) شعب الإيمان، للبيهقي، 7/228.
([10]) سنن الدارمي، 1/163-164.
([11]) شعب الإيمان، للبيهقي، 4/271.
([12]) طبقات الصوفية، للسلمي، صـ418.
([13]) أخرجه البخاري في «الإيمان»، باب: «قَوْلِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم: الدِّينُ النَّصِيحَةُ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ…»، (1/21)، ح(57) ومواضع أخر، ومسلم في «الإيمان»، باب: « بَيَانِ أَنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ»، (1/75)، ح(56).
([14]) أخرجه مسلم في «الإيمان»، باب: « بَيَانِ أَنَّ الدِّينَ النَّصِيحَةُ»، (1/74)، ح(55).
([15]) تفسير القرطبي، 8/227.
([16]) تاريخ دمشق، لابن عساكر، 23/465.
([17]) شعب الإيمان، للبيهقي، 7/65.
([18]) تاريخ دمشق، لابن عساكر، 56/517 من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما، وقد ضعفه الألباني في «ضعيف الجامع»، ح(1449).