قبل المدنية الحديثة، كانت البيوت هي مأوى الناس، وأكثر الأماكن التي يبقى فيها البشر، وبعد المدنية الحديثة، انتشرت ثقافة مختلفة، تجعل البيوت –في غالب الأحيان- مثل الفنادق، إنما هي للنوم، أما غالب اليوم فهو للخروج وعدم البقاء، واشتركت المرأة فيه مع الرجل، حتى إن المرأة التي كانت تمكث في البيت لو بقيت فيه بضع ساعات، فهي تشعر أنها غير طبيعية، أو ينقصها شيء كبير، ألا وهو الفرار إلى الشارع والخارج، بل وجدنا من المسلمين من لا يعود إلى بيته إلا فجراً، أو بعد الفجر.
وتشاء حكمة الله تعالى وإرادته أن يعود الناس إلى بيوتهم مرة أخرى، لكنهم مجبرون غير مختارين، فالحجر الصحي الذي فرضته السلطات في غالب دول العالم بعد انتشار فيروس كورونا أعاد الناس إلى بيوتهم، إما بالحظر الكلي (24 ساعة)، أو بالحظر الجزئي، حسب كل دولة وخطتها.
وتداعت حملات التوعية بشعاراتها “خليك بالبيت، ابق في بيتك”، وكذلك “ليسعك بيتك”، في إشارة إلى حديث النبي صلى الله عليه وسلم، الذي أخرجه الترمذي في سننه عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، ما النجاة؟ قال: «أمسك عليك لسانك، وليسعك بيتك، وابك على خطيئتك».
قال البقاعي في نظم الدرر في تناسب الآيات والسور، البقاعي (8/ 409): “وليسعك بيتك، أمراً بالقرار فيه”.
وإن كان علماء الأمة من سلفها إلى خلفها نقل عنهم ما يدعو الناس إلى البقاء في البيت، دون ربطه بانتشار الأوبئة، فالبقاء في البيوت في الأزمات والطوارئ والأوبئة والابتلاءات لا شك أنه أولى.
قال الفضيل بن عياض: “في آخر الزمان عليكم بالصوامع، قلنا: وما الصوامع قال البيوت، فإنه ليس ينجو من شر ذلك الزمان إلا صفوته من خلقه”، وكان يقول: “ليس هذا زمان الكلام، هذا زمان السكوت ولزم البيوت”، الرسالة المغنية في السكوت ولزوم البيوت، لابن البنا الحنبلي (ص 37).
اعتزال الفتنة:
والغالب على الحث الوارد في الأحاديث والآثار من البقاء في البيوت هو “اعتزال الفتنة”، فقد كانت وصية النبي صلى الله عليه وسلم التزام البيوت وقت الفتنة، وعدم الولوج فيها، كما ورد عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في الفتنة: «كسروا فيها قسيكم، وقطعوا فيها أوتاركم، والزموا فيها أجواف بيوتكم، وكونوا كابن آدم» (أخرجه الترمذي)، وأخرجه أبو داود بزيادة في أوله، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن بين يدي الساعة فتناً كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً، ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، القاعد فيها خير من القائم، والماشي فيها خير من الساعي، فكسروا قسيكم، وقطعوا أوتاركم، واضربوا سيوفكم بالحجارة، فإن دخل على أحد منكم فليكن كخير ابني آدم» وأخرجه أبو داود أيضاً إلى قوله: «خير من الساعي»، قالوا: فما تأمرنا؟ قال: «كونوا أحلاس بيوتكم».
ومما ورد في الحث على البقاء في البيت ما ورد عن عاصم بن حميد، قال: سمعت معاذاً يقول: “إنكم لن تروا من الدنيا إلا بلاء وفتنة، ولن يزداد الأمر إلا شدة، ولن تروا من الأمراء إلا غلظة، ولن تروا أمراً يهولكم ويشتد عليكم إلا حقره بعد ما هو أشد منه”.
قال أحمد بن حنبل رضي الله عنه: “اللهم رضنا مرتين”. ا.ه
وهذا هو الحاصل في زماننا، فكم نترحم اليوم على أحوال وأوضاع كنا بالأمس ننكرها، فلما رأينا ما رأينا وعايشنا ما عايشنا، علمنا أن ما فاتنا كان أخف وطأة مما نحن فيه، فاللهم سلم.
واعتزال الناس والبقاء في البيت إنما هو متعلق بالضرر الحاصل، كالفتنة، أما في غيرها، فلا بأس بالمخالطة والمعايشة، مع ما يحمله الإنسان من دعوة الغير إلى الخير.
جاء في عمدة القاري شرح صحيح البخاري (14/ 84): وهذا كقوله في الحديث الآخر: “وليسعك بيتك”.
وفيه: فضل العزلة والانفراد عند خوف الفتن على المخالطة، وأما عند عدم الفتن فقال النووي: مذهب الشافعي وأكثر العلماء: أن الاختلاط أفضل بشرط رجاء السلامة من الفتن، ومذهب طوائف: أن الاعتزال أفضل، قلت: يدل لقول الجمهور: قوله صلى الله عليه وسلم: “المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم” (رواه الترمذي في أبواب الزهد، وابن ماجة) ا.هـ
البقاء في البيوت للمحاسبة والمراجعة والمناجاة:
ومن مقاصد البقاء في البيوت في الإسلام هو أن يكون للمسلم وقت يحاسب فيه نفسه، ووقت يناجي فيه ربه بالعبادة والطاعة، ووقت يبتعد عن شرور الدنيا وملذاتها وشهواته الغالبة، كما ورد عن وهب بن منبه، قال: في حكمة آل داود:
حق على العاقل أن تكون له أربع ساعات:
ساعة يحاسب فيها نفسه.
وساعة يناجي فيها ربه.
وساعة يخلو فيها إلى إخوانه الذين يخبرونه بعيوب نفسه.
وساعة يخلي بين نفسه وبين شهواتها التي لا قوام له إلا بها مما يحل ويحسن.
فإن في هذه الساعة عوناً له على الساعات الأخر.
وحق على العاقل أن يكون عارفاً بزمانه، حافظاً للسانه، مقبلاً على شانه.
وحق على العاقل ألا يرى ظاعناً إلا في ثلاث؛ زاد لمعاد أو مرمة لمعاش أو لذة في غير محرم.
وفي هذا المعنى يقول المناوي في فيض القدير (2/ 197): “أي تعرض لما هو سبب لزوم البيت من الاشتغال بالله والمؤانسة بطاعته والخلو عن الأغيار” ا.ه
البقاء خشية المرض:
ومن الأمور التي شرعها الإسلام للبقاء في البيوت ما بات يعرف اليوم بـ”الحجر الصحي”، وهو ما أرشدنا إليه النبي صلى الله عليه وسلم في أكثر من حديث، من ذلك:
ما أخرج أحمد من حديث عائشة رضي الله عنها مرفوعاً؛ قلت: يا رسول الله، فما الطاعون؟ قال: “غدة كغدة الإبل، المقيم فيها كالشهيد، والفار منها كالفار من الزحف”.
بل يشير ابن القيم في كتابه زاد المعاد (4/ 43) إلى فوائد البقاء أيام الطاعون، حتى ترك الرياضة، فيقول: “ما قاله أئمة الطب أنه يجب على كل محترز من الوباء أن يخرج الرياضة والحمام فإنهما مما يجب أن يحذرا؛ لأن البدن لا يخلو غالباً من فضل رديء كامن فيه، فتثيره الرياضة والحمام ويخلطانه بالكيموس الجيد، وذلك يجلب علة عظيمة، بل يجب عند وقوع الطاعون السكون الدعة وتسكين هيجان الأخلاط، ولا يمكن الخروج من أرض الوباء والسفر منها إلا بحركة شديدة وهي مضرة جداً، هذا كلام أفضل الأطباء المتأخرين، فظهر المعنى الطبي من الحديث النبوي، وما فيه من علاج القلب والبدن وصلاحهما” ا.هـ
وأبان عن مقاصد العزلة والبقاء، من “تجنب الأسباب المؤذية، والأخذ بالعافية التي هي مادة المعاش والمعاد، وألا يستنشقوا الهواء الذي قد عفن وفسد، فيمرضون بمجاوراتهم من جنس أمراضهم، وفي سنن أبي داود مرفوعاً: “إن من القرف التلف”، قال ابن قتيبة: “القرف مداناة الوباء ومداناة المرضى”.
وما قاله الإمام ابن القيم هو ما يقوله الأطباء اليوم خاصة في هذا الوباء المنتشر، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم حث في الطاعون على البقاء في البيت لغير المريض، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “ليس من رجل يقع الطاعون، فيمكث في بيته صابراً محتسباً يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد” (رواه البخاري في صحيحه).
قال ابن حجر: “اقتضى منطوقه أن من اتصف بالصفات المذكورة يحصل له أجر الشهيد وإن لم يمت” (فتح الباري 194/10).
الضجر من البقاء في البيت:
وإن كان البعض يتضجر الآن من البقاء في البيت، فإن كلمات العلماء قديماً كأنها تتنزل علينا اليوم، بالوصية من عدم التضجر من البقاء في البيت، بل هو خير لنا، مما قد يصيبنا من الأذى والضرر.
قال ابن الملك في شرح المصابيح (5/ 247): “وليسعك بيتك”؛ أي: اسكن في بيتك ولا تخرج منه إلا للضرورة، ولا تضجر من الجلوس في مسكنك والاشتغالِ بشأنك، ودع ما لا يعنيك ومخالطةَ من يشغلك عن دينك”.
فإن المقصود من البقاء في البيت هو طلب السلامة، كما قال الصنعاني تعقيباً على قوله عليه الصلاة والسلام: “وليسعك بيتك”، قال في “التنوير شرح الجامع الصغير” للصنعاني (3/ 253): “إشارة إلى العزلة، وطلب السلامة”.
الخلاصة:
إن كان البقاء في البيت اليوم لأجل انتشار الوباء، فلعلها فرصة أن نعيد التفكير في علاقتنا مع بيوتنا، وأن تأخذ حظاً أكبر في بيوتنا، فإن بقاء الناس في بيوتهم لساعات طوال، يعني: التقارب الأسري بين الزوجين من ناحية، والأولاد وآبائهم وأمهاتهم من ناحية أخرى.
العناية بتربية الأولاد، وقيام الزوج خاصة بدوره في التربية، وألا تترك المرأة وحدها لتقوم بهذا العبء الثقيل، بل يشاركها زوجها فيه.
التخفف من أثر الحضارة الغربية التي حولت الناس من البيوت إلى الشوارع، والتخفف من أثر التكنولوجيا ولو قليلاً، وأن يعود دفء البيت كما كان، لما له من أثر إيجابي في حياة الناس.
ولا يعني هذا ترك معاش الناس، وإنما المقصود التخفف من الخارج، وأن يتوسط الناس في حياتهم، وأن يعطوا بيوتهم قليلاً من الاهتمام.
وما أحسن ما قاله ابن مسعود لأصحابه: “كونوا ينابيع العلم، مصابيح الليل، أحلاس البيوت، جدد القلوب، خلقان الثياب، تعرفون في أهل السماء وتخفون على أهل الأرض.
وإن كانت النملة بدت حكيمة وإيجابية وصاحبة مسؤولية، كما قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ) (النمل: 18).
قال جمال الدين الملطي في المعتصر من المختصر من مشكل الآثار (2/ 322): “فألهمت ما كان فيه نجاتها ونجاة ما سواها من سليمان وجنوده وقصة هدهد مع سليمان أكبر شاهد بإلهام الله عز وجل إياه ذلك”.
فلا أقل أن نكون مثل النملة في المسؤولية الاجتماعية، ففي سكون البيوت –إلا لحاجة أو ضرورة- نجاة من الأذى والضرر.