بعيداً عن الآراء الشرعية والمواقف السياسية والأبعاد الأخلاقية، فإن مناقشة آثار «التطبيع» المتوقع بين الكيان الصهيوني وبعض دول الخليج برؤية إستراتيجية سيجعل الكلفة لصالح الكيان الصهيوني، والخسارة المحتمة للدول الخليجية التي ستطبِّع مع هذا الكيان.
وقبل أن نلج في صلب الموضوع، علينا التمعن في نتائج التطبيع مع الدول التي طبَّعت العلاقات مع الكيان الصهيوني؛ كمصر والأردن والسلطة الفلسطينية، وبعض الدول التي فتحت مكاتب تعاون، حيث لم تجنِ الدول العربية أي فائدة، بل وعلى حسب تأكيد الخبير السياسي الفلسطيني (أستاذ العلوم السياسية) عبدالستار قاسم: «إن الأردن خرب، فلم يبقَ له لا مياه ولا أرض ولا آثار ولا مؤسسات ولا شركات كبرى، وذلك بعد السيطرة عليها «إسرائيلياً»، كما إن مساحات كبيرة من الأراضي في الأردن تُباع للصهاينة تمهيداً للوطن البديل، وحتى آثار البتراء تقع بيد الصهاينة»، وأقول: إنه ما زال الاقتصاد المصري ضعيفاً، وبقيت مصر تعاني الفقر، وهناك تهديد لمياه النيل، أما السلطة الفلسطينية فإن دولتها أصبحت سراباً، وإن «صفقة القرن» تنتظر نجاح «ترمب» في الانتخابات القادمة.
د. إبراهيم خالد عبدالكريم، في مؤلفه «الإستراتيجية الإسرائيلية إزاء شبه الجزيرة العربية» الذي أصدره مركز الإمارات للدراسات والبحوث الإستراتيجية عام 2000م، حدد أهداف السياسة «الإسرائيلية» تجاه شبه الجزيرة العربية (المحاطة بالبحر الأحمر وبحر العرب والخليج العربي)، من أهمها المكانة الخاصة جيوسياسياً باعتبارها نقاط تقاطع خطوط المواصلات بين قارة آسيا وأفريقيا وأوروبا، وتوافر مخزون ضخم من الثروات الباطنية ومصادر مستمرة، والقدرة على التأثير في الواقع العربي، وامتلاك دولها لجميع مقومات التنمية الشاملة، وهذه تمثل فرصاً لانطلاق عملية السلام والاستثمار فيها، وضمان حماية الملاحة في البحر الأحمر، وتوفير فرص تدخل «إسرائيل» في الشؤون الخليجية، وإبقاء الخلل القائم في ميزان التسلح لصالح إسرائيل». انتهى.
ومن المتوقع أيضاً أن يكون الميزان التجاري بين دول الخليج والكيان الصهيوني لصالح الكيان؛ حيث كشف تقرير لمعهد «توني بلير» (للتعاون الدولي) أن قيمة التبادل التجاري بين «إسرائيل» ودول الخليج تتجاوز المليار دولار سنوياً، وأن «إسرائيل» تصدِّر إلى الخليج أكثر مما تصدِّره إلى روسيا أو اليابان، ومن المتوقع أن يزداد حجم الصادرات عدة أضعاف في حالة إقامة علاقات رسمية قد تصل إلى 25 مليار دولار.
إن أحد أهم الأهداف الإستراتيجية للكيان الصهيوني رقابة مسار النفط والسيطرة عليه في حال نجاحه في توقيع اتفاقيات تطبيع مع الدول الخليجية، فالدول الخليجية تسعى لأن تخرج من منافذ الخليج والبحر الأحمر المسيطر عليها من دول أخرى إلى المصبات والبحار الواسعة؛ كالمحيط الهندي أو بحر العرب أو البحر الأبيض المتوسط، ومن هنا فإن السيطرة على مسارات النفط والغاز ستشكل على المستوى البعيد فرصة تحكم للكيان الصهيوني على نفط وغاز دول الخليج.
كما أن مصادر في الكيان الصهيوني تحدثت عن خطة جاهزة لبناء خط سكك حديدية يمتد من «إسرائيل» عبر الأردن وصولاً إلى دول الخليج، في محاولة لاستقطاب النفط الخليجي لنقله عبر ميناء حيفا الواقع شمال الكيان الصهيوني إلى الأسواق الأوروبية والأمريكية.
لكن من أهم المخاطر التي ستواجه دول الخليج حال التطبيع مع الكيان الصهيوني هو أن تكون دول الخليج ساحة حرب للإستراتيجية الصهيونية مع إيران في المنطقة، ولا يهم الصهاينة إن أُحرقت المدن الخليجية في حرب تخدم مصالحهم، أو دخلت شعوب المنطقة في احتراب طويل الأمد لحساب السيطرة الصهيونية.
وتعتقد بعض الدول الخليجية أن مشروع «ترمب» في إيجاد ما يسمى «تحالف الشرق الأوسط» أو «قوة حماية الشرق الأوسط» هو في صالحها، إذ إن القيادة والسيطرة ستكون للولايات المتحدة و«إسرائيل»، في حين أن بعض الدول الخليجية ودول أخرى في المنطقة ستكون الميدان الجغرافي والقوة البشرية التي ستنفذ السياسات الأمريكية والصهيونية في المنطقة، فالهدف هو الأمن القومي الصهيوني على حساب الأمن القومي الخليجي والعربي، ولقد أتم الكيان الصهيوني خططاً عسكرية مستقبلية لتسديد ضربات إلى مواقع إيران تحت هذا الغطاء، في حين أن رد الفعل بالطبع سيكون على جغرافية الدول الخليجية.
إن انضمام الدول الخليجية لهذا التحالف سيكون بمثابة ضربة قاضية لقدرات دول الخليج لحماية نفسها وخضوعها كلياً للهيمنة الأمريكية والصهيونية وردود الفعل الإيرانية، وهذا يمثل إحدى الخسائر الكبيرة لاتفاقيات التطبيع مع الكيان الصهيوني.
كما أن سلاسل شراء الأسلحة الصهيونية والمنتجات الإلكترونية المعلوماتية والاستخباراتية والتعاون المعلوماتي الأمني سيكون شرعياً وقانونياً في حينها، حيث سيصبح الأمن الخليجي مكشوفاً بالكامل بما فيه أمن المواطنين ومعلوماتهم؛ مما سيجعل الشعوب الخليجية تحت السيطرة التامة والانقياد للأهداف الصهيونية؛ مما يعني أن التصادم بين الشعوب وحكوماتها سيكون على المحك، إذا أضفنا خطر تغيير الهوية على أجيال المنطقة، إذ بدأت بعض الدول الخليجية بتعديل قوانينها ومناهجها التعليمية وبيئتها العلمية للتكيف مع اتفاقيات التطبيع؛ مما سيعني تشويه الهوية العربية والإسلامية، وعلو النموذج الصهيوني على هوية الشعوب الخليجية، وبعد مرور عقد من الزمان على هذه الاتفاقيات، سيطالب الكيان الصهيوني بكل ما له علاقة بالتاريخ في المنطقة، حتى يصبح الكيان ممتداً على جميع جغرافية دول الخليج كما رُسمت من مؤسسيه.
فلماذا تنزلق بعض دول الخليج إلى اتفاقيات تطبيع هذه نتائجها الإستراتيجية الكارثية؟!