هدأت إلى حدّ ما موجة الغضب من حزب العدالة والتنمية بسبب قيام القيادي فيه سعد الدين العثماني، وهو رئيس الحكومة المغربية، بتوقيع اتفاق التطبيع مع الكيان العبري وتبريره والدفاع عنه قبل حوالي شهر.
لكن الهدوء النسبي يجب ألا ينسينا المأزق، وحالة التيه والضياع التي انحدرت إليها مكونات الأقطار العربية وفعالياتها؛ الرسمية والحزبية والشعبية والإعلامية والنقابية؛ فهي إما في حالة عجز عن الفعل، سوى التنديد والشجب ولو اتخذ مظهر التظاهرات الإلكترونية أو حتى المسيرات في الشوارع، وإما في حالة تماه مقززة مع مسارات النظم الحاكمة، وإن كنا قد قبلنا بل روّجنا نظرية الفصل بين (ضرورات الأنظمة وخيارات الشعوب) في مراحل سابقة، فقد تبين أن النظم الدولية الحديثة تمكنت من تجريف واحتواء وتجفيف كل ظاهرة لا تسير في ركبها، بما تمتلكه من أدوات الترغيب والترهيب وأساليب المكر الذي تزول منه الجبال.
كون حزب العدالة والتنمية المغربي جزءاً من الحركة الإسلامية (وهو المصطلح الذي أفضل استخدامه على مصطلح “الإسلام السياسي”) أثار موجة أكبر من الغضب، طبعاً بعض “المتغاضبين” يحقدون أيديولوجياً على كل ما هو إسلامي، ووجدوا في موقف الحزب ورئيس الحكومة (سعد الدين العثماني) ذخيرة لمهاجمة الإسلاميين جميعاً ورميهم عن قوس واحدة، وهؤلاء ليسوا أصحاب مبدأ رافض للتطبيع، بقدر ما هم أصحاب سياسة راسخة تناصب الإسلاميين العداء بمن فيهم حركات المقاومة المنتسبة إلى الفكر الإسلامي (“حماس” و”الجهاد الإسلامي” مثلاً)، وعليه فلنحذف هؤلاء من تقييمنا لواقع الحركات الإسلامية، ولنلتفت إلى الرفض المبدئي للتطبيع مع الصهاينة، وإلى الغضب من أي حركة إسلامية تجاريه أو تشارك فيه، بدافع الغيرة وخيبة الأمل، وليس انطلاقاً من الحقد والتصيّد الخبيث.
الدفاع عن الهوية كمبرر للوجود
من المعروف أن انطلاقة الحركات الإسلامية بالمفهوم التنظيمي وبرامج الدعوة والتأطير والاستقطاب، جاءت بعد مرحلة إلغاء الخلافة العثمانية في تركيا بقرار من أتاتورك، وفي ظل هيمنة استعمارية عسكرية مسنودة بغزو ثقافي على البلاد العربية؛ فإلغاء الخلافة فرض تحدياً على الأمة، حيث إنها فقدت المرجعية تماماً، فقد كانت الخلافة على ضعفها في مراحلها الأخيرة وفقدانها أدوات التأثير، هي الجامع والراية المعنوية للأمة، فكيف إذا اجتمع فقدان المرجعية والرابطة الوجدانية، باحتلال أوروبي ماكر يمتلك وسائل عصرية متطورة، تهدد كينونة الأمة؟
لذا كان مبرر وجود الحركات الإسلامية غاية في المنطق، بل هو ضرورة للتصدي ومواجهة التهديد الذي يستهدف كينونة وهوية الأمة، وبكلمات أخرى فإن الحركات الإسلامية بلورت مقاومة مادية ومعنوية لخطط التغريب التي اجتاحت أرجاء الأقطار العربية والإسلامية، فالأمر ليس فقط دعوة إلى عودة الخلافة الإسلامية وتحكيم الشريعة، مع حضور هذين العنوانين بكثافة في الخطاب التعبوي لعموم الحركات الإسلامية؛ بل الأمر يتعدى ذلك إلى التصدي بحزم إلى اتجاهات التغريب التي طالت الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، بل حتى أثرت على المؤسسات الدينية التي بنتها الأمة وطورتها ورعتها وحرصت على استقلالها منذ قرون (مؤسسات الوقف والتعليم الشرعي وما يلحق بها)، وعليه فإن الحركات الإسلامية في مبرر وأصل وجودها هي كيانات صدّ للتغريب، أو تخفيف فاعليته في أضعف الحالات.
“إسرائيل” أبرز مظاهر التغريب
وقد كان إنشاء “إسرائيل” وما سبقها من تمهيد لهذه الخطوة السامة، وما تلاها حتى الآن من دعم لهذا الكيان من الغرب ممثلاً بأكبر وأهم دوله ومنظوماته السياسية والمالية والإعلامية وقبلها العسكرية، هو أكبر وأهم المظاهر التغريبية في المنطقة العربية والإسلامية؛ ذلك أن “إسرائيل” أقيمت فوق أرض فلسطين المغتصبة، ومعروف أهمية هذه البقعة لدى المسلمين، كما أن كل ما حيك من خطط ومشروعات في المنطقة كان بهدف تثبيت “إسرائيل” وجعلها أمراً واقعاً في وعي الأمة، أو على الأقل في ممارساتها السياسية، وجعلها صاحبة اليد الطولى والتفوق النوعي على محيطها المختلف عنها دينياً وثقافياً واجتماعياً.
وبالتالي كان من الطبيعي أن يكون لعموم الحركات الإسلامية موقف رافض قطعياً ومبدئياً لوجود “إسرائيل” وضرورة تحرير فلسطين؛ وقد اجتهدت الحركات الإسلامية في ذلك اجتهادات قد نتفق أو نختلف معها؛ فهناك من أرسل المتطوعين في حرب 1948 وهناك من انضوى تحت لواء آخر بهدف المقاومة، وهناك من رأى أن الأفضل تغيير النظم السياسية العربية كممر إجباري للتفرغ لمناجزة الكيان، وهناك من رأى ضرورة ممارسة الضغط الناعم على الأنظمة كي تتخذ مواقف صلبة تجاه الصهيونية، وهناك من عمل وفق المتاح بتوفير ما يمكنه من دعم معنوي ومادي للفلسطينيين.. وغير ذلك من المواقف التي يجمعها الرفض المبدئي لوجود الكيان الصهيوني وضرورة تحرير المسجد الأقصى وفلسطين.
لا مبرر للتساوق مع التطبيع
أداء الحركات الإسلامية السياسي في غير قُطر عربي، لم يكن على ما يرام، ولكن قد يقبل التبرير ولو على مضض؛ فثمة حركات إسلامية كانت مثل (الماكياج) الذي يغطي وجه الاستبداد، وعموماً لم تفلح مشاركة الحركات الإسلامية في النظم السياسية في محاولات الإصلاح على أي صعيد، ولدينا كثير مما يمكن قوله عن هذه الحركات، من زاوية أدائها عموماً، ولكن كما قلت يمكن قبول التبريرات على مضض، أو التماس الأعذار!
لكن لا يمكن بأي حال وتحت أي ظرف قبول التساوق مع تيار وموجة التطبيع مع الكيان الصهيوني التي تجتاح عدة أقطار عربية، فهذا ما لا يُلتمس فيه عذر، ولا يخضع لمقولة اتساع باب الاجتهاد، أو غير ذلك، فهذا يفقد الحركات الإسلامية مبرر وجودها، ولو أن الخيار كان أن تحل نفسها، أو تترك العمل السياسي وتتفرغ للنشاط الدعوي بأبسط أدواته، أو تتساوق مع التطبيع، لكان خيراً لها ترك العمل السياسي، ما دامت لا تستطيع تحدي تطبيع الأنظمة مع الصهاينة، ذلك أن “التقية” هنا لا محل ولا مكان لها، وكلامي لا ينطبق فقط على العدالة والتنمية المغربي وسعد الدين العثماني، وإن كانا محل التركيز الأكبر، بل هي رسالة إلى كل حركة أو تجمع إسلامي مفادها المختصر: ساحة العمل السياسي ومراوغاته ومرونته وضروراته شيء لا تدخل فيه فلسطين والأقصى ولو بكلمة أو همسة، ورفض التطبيع قولاً وفعلاً لا مساومة فيه وعليه، ولا يحتمل الكلام حمّال الأوجه!
مرسي وإخوان مصر ودفع الثمن
ولكن في ظل حديثنا الرافض والمستنكر والمحذر من مداهنة أي حركة إسلامية لمسار التطبيع، علينا أن نتذكر مواقف د. محمد مرسي والإخوان المسلمين في مصر، والذين برأيي يدفعون ثمن موقفهم من القضية الفلسطينية؛ فنحن قد نتفق أو نختلف حول بعض أو كثير من أدائهم السياسي في مصر، ولكن المؤكد أن موقفهم من فلسطين وقضيتها كان وما زال موقفاً نشعر بالحنين إليه، بل البكاء عليه؛ هذا الموقف الذي عمل المغرضون والأغبياء والمدفوعون من المطبعين الحاليين، إلى اختزاله برسالة إلى شمعون بيريز، بينما الأمة حالياً تتذكر موقف مرسي -يرحمه الله- من العدوان على غزة في عام 2012م.
بل نتذكر كيف أن المقاومة في غزة انتعشت في فترة حكمه، بينما فور الانقلاب عليه ضُرب حصار مستمر خانق على قطاع غزة، ناهيك عن ملاحقة البحرية المصرية للصيادين في غزة واعتقالهم وقتلهم وهم يبحثون عن لقمة عيشهم بينما يدخل الصهاينة إلى سيناء بكل راحة وأمن!
هذا كله يجعلنا على يقين أن من يتخذ موقفاً مشرّفاً من فلسطين في ظل الوضع العربي البائس الحالي لن يكون له مكان في الحكم أو الإدارة وقد يعتقل أو يقتل، وهذه إشارة إلى الحركات الإسلامية العربية، فقد يكون هناك خيار ثالث غير الاستئصال والاجتثاث أو السير في ركب الخيانة والتطبيع، وهو الانسحاب التكتيكي من العمل السياسي، خاصة في ظل أزمات النظام الدولي والنظم العربية التي ستظهر مفاعيلها قريباً، فعليكم الاحتفاظ بطهارتكم من دنس التطبيع، والإبقاء على مواردكم وطاقاتكم من أجل مرحلة نقترب منها، والله أعلم.
____________________________
(*) المصدر: مدونات الجزيرة.