أيام معدودات ويهل علينا ضيف لأيام معدودات، مصداقاً لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ) [البقرة:184]، فكيف نربح فيه بغنيمه السباق نحو الجنان، ونتخلق بالتقوى التي هي أهم مقاصد فرضية الصيام.
التقوى واحتساب الأجر
يجب أن ندرك قبل دخول رمضان الذى يعد موسمًا للطاعات وغنيمة للمحتسبين أن صلاح القلوب بالعبادة أهم من مجرد أدائها بالجوارح، وجوهر أداء العبادة الصحيحة؛ الإخلاص فيها، واحتساب أجرها على الله ؛ وخلوها من الرياء والسمعة، لذا جعل الله عز وجل صيام رمضان وقيامه سببًا لحصول المغفرة المعلقة بالإيمان والاحتساب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ”، وفي حديث آخر: “مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ” (رواه الشيخان عن أبي هريرة).
مغفرة مشروطة
وقد دلت الأحاديث هذه الأحاديث سالفة الذكر على أن المغفرة التي وعد الله بها الصائمين مشروطة بأمرين:
الأول: صيام وقيام رمضان إيماناً؛ أي إيماناً بالله ورسوله وتصديقاً بفرضية الصيام وما أعد الله تعالى للصائمين من جزيل الأجر وعظيم الثواب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “قال الله: كلُّ عملِ ابن آدمَ له إلا الصيام؛ فإنه لي وأنا أجزي به..” (متفق عليه).
الثاني: صيام وقيام رمضان احتساباً؛ أي طلباً للأجر والثواب، وإخلاصاً لوجه الله تعالى، بلا رياءً ولا سمعة ولا اتباعًا لعادة نشأ عليها، ولا تقليدًا للناس من حوله، بل يصومه احتساباً لنيل رضا الله، والفوز برضوانه، طيبةً به نفسه غير كاره لصيامه ولا مستثقل لأيامه المعدودات، بل يغتنم نهاره صائمًا وليله قائمًا لعظم الثواب المدخر له عند مولاه عز وجل.
الاحتساب.. الفقه الغائب
لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ما الاحتساب؟ وكيف نحتسب على الله كل طاعتنا وعباداتنا في رمضان؟
الاحتساب لغة: من حسب، وهو العدّ، قال تعالى: ﴿الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ﴾ [الرحمن: 5]، ومنه قولهم: احتسب فلان ابنه إذا مات كبيرًا، وذلك أن يعدَّه في الأشياء المدَّخرة له عند الله.
أما اصطلاحاً: فقد قال الكفوي: الاحتساب: هو طلب الأجر من الله تعالى بالصبر على البلاء مطمئنة نفس المحتسب غير كارهة لما نزل بها من البلاء.
ويكاد يكون الاحتساب هو الفقه الغائب والجوهرة المفقودة؛ لأنه يجمع بين الإخلاص والصبر وروح المبادرة إلى العمل الصالح، سواء كان النفع ذاتياً يتعلَّق بالعبد، أو كان النفع متعدياً يستهدف الآخرين، وهو في ذلك متبعاً هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
وقال ابن الأثير: الاحتساب في الأعمال الصالحة وعند المكروهات هو البدار إلى طلب الأجر وتحصيله بالتسليم والصبر، أو باستعمال أنواع البر والقيام بها على الوجه المرسوم فيها طلباً للثواب المرجو منها، قال تعالى: ﴿لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 114]، والاحتساب أن يَعُدّ الإنسان صبره في المكاره وعمله الطاعة ضمن ما له عند الله عز وجل، فإن اكتفاء الإنسان بالله تعالى وثقته به واتكاله في نصرته على عونه، نوع من الاحتساب، كما أن رضا العبد بما قسم له مع الاكتفاء به، قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ﴾ [التوبة: 59].
الاحتساب الذي نريد
الاحتساب سلوك أصحاب الهمم العالية يستهوي القلوب المؤمنة ويدفع للعمل ويورث السعادة والطمأنينة في الدنيا قبل الآخرة، ويزيد الحسنات ويضاعف الدرجات ويقيل العثرات ويمحو السيئات، يقول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “أيها الناس: احتسبوا أعمالكم، فإن من احتسب عملَه كُتبَ له أجر عملِه وأجر حِسْبته”، والاحتساب الذي نريد هو:
– احتساب الأجر من الله تعالى عند الصبر على المكاره، فقد جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “يقول الله تعالى: ما لعبدي المؤمن عندي جزاء إذا قَبَضْتُ صَفِيَّهُ من أهل الدنيا ثم احتسبه إلا الجنة” (رواه البخاري).
– احتساب المولى عز وجل ناصرًا ومعينًا للعبد عند تعرضه لأنواع الابتلاء من منع عطاء أو خوف وقوع ضرر، ومعنى الاحتساب في هذا النوع الثاني الاكتفاء بالمولى عز وجل ناصرًا ومعينًا والرضا بما قسمه للعبد إن قليلًا وإن كثيرًا، قال تعالى: ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [التوبة: 129].
– الثالث وهو الذي نحن بصدده، احتساب الأجر من الله تعالى عند عمل الطاعات يُبتغى به وجهه الكريم، كما في صوم رمضان إيمانًا واحتسابًا، وكذا في سائر الطاعات، عن أبي مسعود البدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة، وهو يحتسبها، كانت له صدقة”، وجاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “من اتبع جنازة مسلم إيمانًا واحتسابًا، وكان معه حتى يُصلى عليها ويفرغ من دفنها فإنه يرجع من الأجر بقيراطين، كل قيراط مثل أُحُد، ومن صلى عليها ثم رجع قبل أن تدفن فإنه يرجع بقيراط” (متفق عليه).
الاحتساب يجعل العادة عبادة
لأن رمضان أيامًا معدودات، ساعاته ودقائقه بل وأنفاسه فينبغي للعاقل أن يحتسب على الله كل ما يصدر عنه من أقوال وأفعال، فالاحتساب مفهوم واسع وشامل لكل جوانب الحياة، يجعل من العادات عبادات بإذن الله، وذلك عند استحضار النية فيها، وطلب الأجر والمثوبة من الله، كما في بعْث النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه إلى اليمن؛ وفيه قال معاذٌ: “أمَّا أنا فأنام وأقوم، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي” (رواه البخاري).
ثمرات الاحتساب
– للاحتساب ثمرات عديدة، ففي مضان ثمرته أن يغفر الله لك ما تقدم من ذنبك لتخرج من رمضان صفحة بيضاء ليس فيها سيئات.
– والاحتساب يمنع تحول العبادات إلى عادات، فبعض الناس قد يصوم عادة مثلما يصوم الناس دون أن يحتسب على الله صيامه وقيامه.
– الاحتساب دليل كمال الإيمان وصحة العبادة، وفهم مقاصد الدين، وإذا كان في الطاعات فيجعل العبد قرير العين، مسرور الفؤاد بما يدخره عند ربه؛ فيتذوق حلاوة الإيمان ويشعر ببرد اليقين.
– بالاحتساب يتحقق معنى الإخلاص التام فهو ينفى عن الأعمال الرياء والسمعة، ويزيد من ثقة المؤمن بربه، فلا يكون جزاء طاعته حينئذ إلا الجنة.
– إذا احتسب المرء كل أفعاله على الله تحقق عنده معني الرضا بقضاء الله وقدره، واتسم بحسن الظن بالله تعالى.
– إذا كان الاحتساب في المكاره فيضاعف أجر الصبر عليها، ويدفع الحزن ويجلب السرور ويحوّل ما يظنه الإنسان نقمة إلى نعمة.
– الاحتساب طريق الشعور التام بالراحة وانشراح الصدر والسعادة في الدارين، كما أنه طريق موصل إلى محبة الله ورضوانه، ومن ثمَّ الفوز بالجنة والنجاة من النار.
– الاحتساب سبب لامتثال العبد للمراد من خلافته كما أمر سبحانه وتعالى بقوله: (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ {162}) (الأنعام).
لماذا لا نحتسب؟
– غياب فقه التجارة مع الله في الأوقات والأزمان الفاضلة مثل شهر رمضان، والعشر الأواخر، وليلة القدر.
– غياب الفهم والإدراك لفقه الاحتساب وثوابه.
– ضعف الهمة الصادقة لتحصيل الثواب الجزيل بالاحتساب.
– التهاون في إحسان العبادة والإتيان بها على أكمل وجه.
– نسيان استحضار الثواب واحتساب الأجر مما يجعل العبادة عادة.
– عدم التحسر على فوات أجر الطاعات.
– كثرة المعاصي والوقوع في المحرمات.
– التعلق بالدنيا والحرص عليها مما يؤدي إلى تناسي الاحتساب.
– الغفلة عن ذكر الله تعالى وعدم تذوق حلاوة الإيمان.
– احتقار الحسنات والاستخفاف بالسيئات.
ختامًا: قبل أن يحل علينا شهر رمضان ذلك الضيف الكريم لأيام معدودات، احتسب على الله صيامك ونومك وقيامك، وتلاوتك للقرآن، وصلاتك وتسبيحك، وصدقتك، وصلتك لرحمك، وعطفك على الفقراء، والإنفاق على عيالك، وبرك بوالديك، وإحسانك لجارك، وخطواتك إلى المسجد، وكل أنفاسك، احتسب كل ذلك على الله، فالاحتساب عبادة قلبية ثمنها مغفرة الذنوب ودخول الجنة.