إدارة الصراعات لا تكون باستخدام القوة الصلبة فقط؛ فالتأثير في الرأي العام من أهم أهداف تلك الإدارة.
ويمكن أن نلاحظ بوضوح تغييرا في اتجاهات الرأي العام خلال تلك الجولة من الصراع لكن المشكلة أن الدول العربية تقيد عملية قياس الرأي العام، وتمنع إجراء استطلاعات توضح اتجاهاته.. على الرغم من أن الرأي العام مصدر للقوة، وأن أفضل القرارات ما يكون معبّرا عن اتجاهات الجماهير وملبّيًا طموحاتها.
من أجل القدس
ولكن هناك الكثير من المؤشرات التي توضح تصاعد تأييد الجماهير في كل الدول العربية للمقاومة الفلسطينية نتيجة إدراك الشعوب العربية لهدف المقاومة من دخول هذه الجولة وهو حماية المسجد الأقصى والدفاع عنه.
ولقد حملت كثير من الرسائل على مواقع التواصل الاجتماعي، والهتافات في المظاهرات تعبيرا عن مشاعر الإعجاب بالمقاومة والشكر لها لدفاعها عن المسجد الأقصى.
وارتبطت تلك المشاعر بالتعبير عن الغضب والسخط على المستوطنين المغتصبين اليمينيين الذين خططوا لاقتحام المسجد الأقصى في 28 رمضان، وما حمله خطابهم من تهديد بتدمير المسجد الأقصى لبناء الهيكل، وتشجيع حكومة نتنياهو لهم بغرض كسب أصواتهم.
وأدرك بعض الكتاب الصهاينة خطورة مشاعر الغضب في العالم الإسلامي، إذ تم توجيه اللوم إلى حكومة نتنياهو، التي ارتكبت خطأ تاريخيا بتشجيع الجماعات اليمينية على اقتحام المسجد.
ولكن نتنياهو لم يستوعب الدرس، فبعد أن استنجد بمصر لتقديم مبادرتها لوقف إطلاق النار وإنقاذه، عاد لتشجيع اليمينيين المتطرفين على اقتحام المسجد الأقصى وحصار حي الشيخ جراح، وهذا سيؤدي إلى تأجيج غضب المسلمين في كل أنحاء العالم، فضلا عن وضوح سمة مهمة في صورة الكيان الصهيوني هي نقض العهود وعدم التزام الاتفاقيات.
ومن الواضح أن نتنياهو يشعر بالإهانة والهزيمة والإخفاق لذلك يحاول أن يصور نفسه لشعبه أنه لم يقبل الخضوع لشروط المقاومة، وأن اتفاق الهدنة تم دون شروط.. لكن محاولاته لم تنجح في مواجهة مشاعر الخوف التي بدأت تنتشر في الكيان الصهيوني.
فلقد أصبح الصهاينة يعيشون حالة عدم يقين بالمستقبل بعد أن اضطروا إلى الحياة في الملاجئ وأدركوا أنهم محاصرون تماما مثل الفلسطينيين.
لذلك فإن غضب الشعوب الإسلامية الذي انفجر بسبب الاعتداء على المسجد الأقصى ارتبط بتزايد مشاعر الخوف والإحباط والعجز وعدم اليقين لدى الصهاينة، وهذه المشاعر سيكون لها تأثير كبير في مستقبل الصراع.
التفاؤل والفرح!
فعندما انطلقت الرشقة الأولى من صواريخ المقاومة عبّرت الجماهير في كثير من الدول عن فرحها بأن المقاومة استطاعت الوفاء بوعودها، وردّت بقوة على اعتداء الجماعات الصهيونية المتطرفة على المسجد الأقصى.
ومع توالي الرشقات الصاروخية، ووضوح عجز الجيش “الإسرائيلي” عن اقتحام غزة تزايد الفخر بالمقاومة التي مثّلت الأمل للشعوب الإسلامية، وعبرت عن أشواقها لتحرير فلسطين.
ولقد أوضحت بعض المؤشرات أن حالة من التفاؤل سادت العالم الإسلامي بأن الأمة قادرة على الفعل وعلى تحقيق إنجازات حضارية، فإذا كانت المقاومة قد تمكنت من تحدّي قوة إسرائيل الغاشمة التي نشرت الوهم في العالم بأنها قوة لا تهزم.. فإن الأمة تستطيع أن تغير الواقع عندما تمتلك إرادتها وتبدع في تطوير قوتها.
وهذا يعني أن مشهد المقاومة وهي ترغم الصهاينة على الحياة في الملاجئ أدى إلى تحرير الشعوب الإسلامية من الهزيمة النفسية التي أضعفت الأمة.
واقع جديد
لقد كانت مشاعر اليأس والإحباط والخوف التي انتشرت خلال العقود الماضية في العالم الإسلامي من أهم أسباب الضعف والخضوع.. ومن الواضح أن “إسرائيل” عملت على نشر تلك المشاعر باستخدام وسائل الإعلام لتصوير قوتها، وأنه لا سبيل أمام الشعوب سوى الخضوع للواقع والقبول بالتطبيع.
وعلى الرغم من أن الشعوب العربية ظلت تدرك أن الكيان الصهيوني هو عدو الأمة، وأنه لا يمكن تحقيق السلام معه، فإن قدرتها على التعبير عن رفضها للتطبيع قلّت نتيجة الخوف من السلطات الاستبدادية في العالم العربي.
لكن كيف كان تأثير مشهد المقاومة في ذلك الواقع؟
من خلال تحليل مضمون كثير من الرسائل التي حملتها وسائل التواصل الاجتماعي يمكن أن نستنتج أن الشعوب أصبحت تدرك أن الثورة على ذلك الواقع هي الوسيلة الوحيدة للتغيير، وتحقيق الاستقلال الشامل والانتصارات التي أوضحت المقاومة أنها يمكن أن تتحقق.
لذلك كان من أهم إنجازات المقاومة أنها أوضحت للشعوب في العالم الإسلامي أنها قادرة على الفعل، وأن هذه الشعوب تستطيع أن تغير واقعها وتنتزع حريتها وتقرر مصيرها وتحقق استقلالها.
وهذا يعني أن هناك رأيًا عامًّا إسلاميًّا يتكون، وأنه يمكن أن يقوم بعملية تغيير شاملة.
نجوم جديدة في سماء الكفاح
ويمكن أن نلاحظ بوضوح تزايد إعجاب الناس بقادة المقاومة.. فاحتل أبو عبيدة مكانة مهمة، فعندما يظهر يفرح الناس لأنهم يتوقعون خطابا يعبّر عن أشواقهم إلى العزة والكرامة والقوة والتحدي.
وهذا يعني أن الناس أصبحوا في أشد الحاجة إلى خطاب قوي بعد أن أصابهم السأم والملل من ذلك الخطاب الضعيف الذي يركز على الاستقرار باعتباره الهدف الرئيس للحياة.
ومن الواضح أن الجماهير أصبحت تحتاج إلى أبطال يقودون التغيير ويتميزون بالقوة والشجاعة والرجولة.
لذلك كانت الجماهير تنتظر ظهور أبي عبيدة لأن قوة خطابه تفجر الحنين إلى ذكريات تاريخية.
وكذلك محمد الضيف فقد أثار خيال الجماهير التي هتفت باسمه داخل المسجد الأقصى في مواجهة التهديدات باقتحامه.. كذلك ألهم الجماهير في كل العالم الإسلامي عندما أصدر أوامره للصهاينة بالدخول إلى الملاجئ ثم منحهم فرصة للخروج لقضاء حاجتهم والعودة إلى ملاجئهم.
هذا يعني أن تأثير محمد الضيف قد تجاوز الصواريخ وتجاوز دوره قائدا عسكريًّا، فأصبح قائدا للتغيير، وملهما للجماهير.
أما الشهيد الدكتور جمال الزبدة فإنه نموذج لقائد مبدع ترك كل مغريات الحياة في أميركا وقرر العودة إلى غزة ليستخدم علمه في تطوير الأسلحة التي أصبحت المقاومة تستخدمها في مواجهة قوة إسرائيل الغاشمة، وفي إثارة خوف الصهاينة ورعبهم.
وهذا يعني أن عقولنا قادرة على الإبداع والابتكار وتغيير الواقع، وأن العلماء لا ينحصر دورهم في مدرجات الجامعات بل لا بد من أن يقودوا مجتمعاتهم لتحقيق أهداف عظيمة.
هؤلاء هم النجوم في مرحلة كفاح جديدة تستعيد فيها الأمة قدرتها على المواجهة والتغيير وتحقيق الانتصارات، وتقرر اختيار قادتها بإرادتها الحرة.
إن إنجاز المقاومة الفلسطينية لا يتمثل فقط في إرغام “إسرائيل” على أن تتوسل هدنة، وأن يتخلى نتنياهو عن غروره ويقبل صاغرا وقف إطلاق النار.. لكن هناك إنجازات أخرى، من أهمها تحرير الأمة من حالة الهزيمة النفسية، وزيادة وعيها بقدرتها على تغيير الواقع وتحقيق الانتصارات، وبناء المستقبل.
رأي عام عالمي
وهناك أيضا مؤشرات على أن رأيا عاما عالميا مؤيدا للمقاومة ورافضا للجرائم “الإسرائيلية” بدأ يتكون؛ فالمظاهرات في كثير من الدول الغربية مثل الولايات المتحدة وبريطانيا تشكل بداية لمرحلة جديدة يتم فيها إجبار الحكومات الغربية على مراجعة موقفها من “إسرائيل”.
لقد أصبحت الآن صورة “إسرائيل” واضحة أمام العالم ومن أهم سمات تلك الصورة أنها ترتكب جرائم بحق الإنسانية، وأنها نظام يقوم على الفصل العنصري لذلك بدأ يتردد مفهوم الأبارتايد “الإسرائيلي” وأن “إسرائيل” تقوم بطرد الفلسطينيين من أرضهم وإبادتهم، وتدمر الحضارة الإنسانية، حيث ينسف الطيارون “الإسرائيليون” أبراج غزة تنفيسا عن شعورهم بالإحباط.
ولأن “إسرائيل” تدرك جيدا أهمية الإعلام ودوره في نقل الصورة الحقيقية إلى العالم فلقد نسفت برج الجلاء وبرج الشروق لتدمير مكاتب وسائل الإعلام العالمية.
ومع ذلك أدّت وسائل التواصل الاجتماعي دورا مهما في نقل الصورة والتعبير عن الجماهير على الرغم من تحيز إدارة فيسبوك لـ”إسرائيل”، ومحاولتها إغلاق الصفحات التي تنشر مضمونا يكشف الحقائق عن جرائم إسرائيل وعنصريتها.
ولذلك ربطت الجماهير في أميركا بين شعاري “حياة السود مهمة” و”حياة الفلسطينيين مهمة” كبداية لمرحلة جديدة من الكفاح في وجه التمييز والتفرقة العنصرية والتطهير العرقي.
هذا يعني أنه تجب دراسة الفرص التي أتاحتها ثورة الاتصال لتكوين رأي عام عالمي عن طريق توفير المعرفة للجماهير عن جرائم “إسرائيل” بحق الشعب الفلسطيني، التي بدأت بطرده من أرضه عام 1948 وارتكاب كثير من المذابح العنصرية ضده، وأن “إسرائيل” كيان إرهابي يقتل المدنيين ويدمر الحضارة، وأنه لا يمكن تحقيق سلام إلا بإقامة دولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس.
لذلك يجب أن نبدأ بدراسة كيفية استثمار هذا التغيير في اتجاهات الرأي العام، وإدارة هذا التغيير لتحقيق أهداف بعيدة المدى من أهمها بناء مستقبل يقوم على حق الشعوب في تحقيق استقلالها الشامل.
—–
* أستاذ الإعلام بجامعة القاهرة، وعضو مجلس الشعب في برلمان الثورة، ووكيل لجنة الثقافة والإعلام بالمجلس 2012. والمقال منقول عن “الجزيرة.نت”.