وصلتني عدة رسائل من إخوة وأخوات كرام، أعرض ملخصا لإحداها:
جزى الله أعضاء مجلة “المجتمع” خيراً على ما تقدمونه خاصة تناولكم للأسرة المسلمة، ورغم قيمة ما تتضمنه سلسلة “المودة والرحمة قراري”، فإنها مفيدة جدا للمقبلين على الزواج، أما نحن الذين تزوجنا منذ سنوات، ألا ترى معي أن الوقت قد مضى؟ وهل من الممكن تصحيح مفاهيم أو نمط الحياة الزوجية بعد 5 أو 10 سنوات من الزواج؟
وتعليقا على هذه الرسالة أقول للقراء الكرام: إنه ليس فقط من الممكن تصحيح مفاهيم أو نمط الحياة الزوجية بعد 5 أو 10 سنوات من الزواج بل يجب بعد 50 و60 سنة من الزواج وما بعدها، وإنه كلما تقدمنا بالعمر كان هذا أدعى أن نعرف المنكر فننتهي عنه ونتلمس الحق فنتبعه؛ فـ“الحكمة ضالة المؤمن فحيث وجدها فهو أحق بها”.
أما بخصوص ما مضى من العمر في تجاوزات شرعية، فنحمد الله أننا علمنا الحق ونسعى لاتباعه، ومنهجيتي في الاستشارات الزوجية التي ترد إلينا أنه بعد مراجعة الزوجين وتعديل المفاهيم الخاطئة، ووضع برنامج تعديل السلوكيات السلبية، أطلب من كل منهما أن يقول لزوجه:
“أشهد الله أنني قد عفوت عنك، وأنني قد تناسيت أخطاءك، وأعاهدك أن أكون نعم الزوج لك”.
لذا فإذا كنت أفكر في الزواج أو متزوجا منذ عدة عقود، فعلي أن أحاول أن أفهم مع زوجي ما سيتم تناوله من مفاهيم، ويتأكد لنا ما كنا عليه من مفاهيم أو نعدلها للأقوم، وكذلك ممارسة وتطبيق ما سيتم تناوله من برنامج عملي وأنشطة مع زوجي، ولكن لا يمكن أن ننجح في تطبيق قرارنا بالمودة والرحمة دون أن نتعاهد أمام الله بأن يعفو كل منا عن زوجه، ويتناسى إساءته، وأن يستعين بالله ويعزم ويوعد زوجه بأن يكون زوجا صالحا له.
دعونا نستعين بالله ونبدأ بأهم مفهوم وركيزة لتوفيق ربنا لنا بقرار المودة والرحمة ألا وهي:
أولا: إخلاص النية لله في زواجي:
الإخلاص هو إفراد الله بالقصد؛ أي أن يكون الباعث والمرتجى هو الله وحده، يقول المولى عز وجل {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ} (الأنعام: 163).
وقال الرسول صلى الله عليه وسلم “إنَّما الأعْمالُ بالنِّيَّةِ“.
ولعلنا نتساءل ما علاقة الإخلاص بالزواج؟
رغم أن الدافع للزواج هو تلبية رغبة الفطرة في الجنس الآخر للعلاقة الحميمية وتلبية احتياج النفس للأنس معه وبناء أسرة وطلب الذرية والتعاون على متطلبات الحياة، إلا أن من الآلاء العظيمة التي يمن الله بها على من أخلص النية في زواجه وحرص على تجديدها عبر مسيرة حياته الزوجية، بدءًا من مجهود البحث عن زوج مناسب له وطوال مسيرة حياته الزوجية هي:
- توفيق الله له في حياته الزوجية.
- الأجر العظيم في الآخرة.
لأنه -كما يقول العلماء- النية في المباحات تحولها إلى عبادات. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “وفي بُضْعِ أحدكم صدقةً”، قالوا: يا رسول الله، أيأتي أحدنا شهوته ويكون له فيها أجرٌ؟ قال: “أرأيتم لو وضعها في حرامٍ، أكان عليه وزرٌ؟ فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجرٌ”، وقال صلى الله عليه وسلم: إنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت عليها، حتى ما تجعل في فم امرأتك“.
فبإخلاص النية لله في زواجي سأنال الأجر من الكريم عن كل نفقة في هذا الزواج حتى ثمن الكتاب الذي سيساعدني على أن أكون زوجا صالحا، وكذا كل مجهود أبذله، مثل الكد في توفير متطلبات الحياة الزوجية، والصبر على زوجي، والإبداع في تلبية احتياجاته العاطفية والجنسية وتجديد نمط حياتنا حتى لا نصاب بالملل والفتور، ولا حرج على فضل الله.
كما أن الإخلاص لا يجعلني أعامل زوجي بالمثل؛ فأنتظر إحسانه مقابل إحساني، لأنه بإخلاصي أخذت الأجر من الكريم. فمن طبيعة النفس البشرية المبالغة في تقدير عطائها وبخس عطاء الآخر، والإخلاص علاج نفسي لهذه النقيصة، ما يدفع الزوج للبذل حتى وإن قصر زوجه في مكافأته، إلى أن يتعلم زوجه منه قيمة العطاء فيتبادلان الإحسان.
إن إخلاصي النية لله في زواجي يحميني بفضل الله من غواية الشيطان، يقول الله على لسان الشيطان {قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} (الحجر: 39، 40).
لذا فعلينا أن نجدد النية في زواجنا وكل حياتنا، اللهم {هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}، اللهم ووفقنا لبناء بيوتنا على التقوى فننعم بالمودة والرحمة.
ثانيا- هل المودة والرحمة هبة أم توفيق من الله؟
يمكن التفريق بين نوعين من نعم الله العظيمة، النوع الأول هبة من الله، مثل الذرية يقول عز من قائل: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} (الشورى: 49، 50)، يشاء الله ألاّ يجعل ذرية بين زوجين صحيحين، رغم كل محاولات الأطباء، فينفصلان ويرزق كل منهما من زوج آخر. والنوع الثاني من النعم هي توفيقية مثل النصر {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} (محمد: 7)؛ فالنصر توفيق من الله لأمة أخلصت النية وجاهدت وصبرت وثابرت وأعدت ما استطاعت من قوة لإعلاء كلمة الله فيوفقها الله بنصره. فهل نعمة الله بالمودة والرحمة على الأسر هبة من الله، أم هي توفيق من الله لزوجين أخلصا النية لله وبذلا الجهد لتحصيل المعارف الشرعية منها والحياتية وتعاونا معا لتنمية مهاراتهما الزوجية من فنون التواصل الحميمي والعاطفي والعقلي، وصاغا رؤية تجمعهما في الفردوس الأعلى ووضع رسالة ذات قيمة مضافة في الدنيا، وتنمية وإطلاق قدراتهما على التعاون على مصاعب الحياة.
إنها توفيق من الله لزوجين صاغا معا برنامج حياة يتناسب وقدراتهما، واستغلا ما أفاء الله على كل منهما من مواهب؛ فيتكاملان في منظومة متسقة كل منهما بجبر قصور زوجه. وأيقن كل مهما أن به قصورا، فلم يكابر بل سأل زوجه العون، فكانا نعم اللباس لبعض من ستر ووقاية وجمال. وحرصا ألا يكون للشيطان عليهما سبيل، فتسابق كل زوج بالمبادرة ليس لكتم غيظه أو العفو عن زوجه بل للإحسان إليه. فهما زوجان درسا وتعرفا على طبيعة شخصية كل منهما؛ فحرصا على معالجة ما بهما من نقائص، واتفقا على التعايش مع ما لم يتمكنا من معالجته من نقائص.. زوجان تعاهدا أن يكون كل منهما عونا لزوجه على مرضاة الله وألا يكون عونا للشيطان على زوجه فقد قال صلى الله عليه وسلم: “لأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا وَاحِدًا خَيْرٌ لكَ مِن أَنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ”، وقال عليه السلام: “خيركم خيركم لأهله وأنا خير كم لأهله”.
فإن وجدت زوجين أنعم الله عليهما بالمودة والرحمة فلا تقل: “حظ طيب” فقط لأن ما فيه من نعمة فهي توفيق من الله لجهود وصبر ودعاء.
لذا فالمودة والرحمة ليست هبة بل هي توفيق من الله لمن عزم وبذل وهذا قرارك.