يتجدد النقاش والخلاف شرقاً وغربا ًكلما أهل علينا شهر ربيع الأول الذي شهد على الأرجح ولادة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم بين فريقين: الأول يحتفي ويحتفل بميلاده صلى الله عليه وسلم، والثاني يتشدد في المنع والتحريم بل وتفسيق وتبديع من يدعو أو يشارك في تلك الاحتفالات، وقد نُقل هذا الخلاف إلى الساحة الأوروبية وصارت القضية تعود جذعة من عامٍ إلى عام وكأننا نطرحها للنقاش لأول مرة، وذات الأمر يتكرر في مناسبة رأس السنة الميلادية في الغرب حيث تطرح قضية تهنئة غير المسلمين بأعيادهم ونكون أمام انقسام مماثل بين الفريقين، وهكذا يتحول أهم حدثين في العام للتعريف بنبي الرحمة ورسالته العالمية والتواصل والتقارب مع المجتمع ومؤسساته إلى مناسبة للاختلاف والفرقة بدلا من الوئام واغتنام الفرصة.
والاحتفاء والاحتفال بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم والخلاف حوله يرد أيضا على الاحتفال بالمناسبات الدينية الأخرى التي تتكرر كل عام كحادثة الهجرة، والإسراء والمعراج، وتحويل القبلة، وليلة النصف من شعبان، وليلة القدر…وغيرها.ولنتخيل شخصيةَ مسلمٍ وُلدَ وعاش في الغرب يمر عليه العام الهجري تلو العام لا يسمع بهذه الأحداث ولا يتوقف عندها؟ أنى له أن يذكرها أو يتذكرها في مقابل المناسبات الدينية والوطنية التي يرى المجتمع بإعلامه وأدواته يحتفى بها احتفاء رائقاً ومشوقاً وماتعاً يصعب أن يتجاهله أو ينساه، بينما ترتبط مناسبات المسلمين الدينية عنده بالخلاف والانقسام حول يوم العيد أو التهنئة، أو الاحتفال بالمولد النبوي الشريف.
فتور وضعف المحبة النبوية في الغرب
لقد اجتمع على المسلمين اليوم وعلى الأجيال الجديدة من أولاد المسلمين في الغرب اليوم من أسباب ضعف وفتور المحبة النبوية في قلوبهم ما لم يجتمع عند غيرهم، ومن هذه الأسباب: عيشهم في بيئة مادية شديدة القسوة والتأثير السلبي على القلب والروح وهي سمة عالم اليوم عموماً، لكنها أجلى وأوضح في المجتمع الغربي، ومنها: غياب الخطاب الأوروبي الجاذب للشباب والأجيال الجديدة والموقظ للعاطفة والمحبة النبوية في قلوبهم؛ لأنَّ صُنّاع الخطاب الديني في الغرب لم يستوعبوا بعد بدقةٍ شخصية أولئك الشباب وطرائق تفكيرهم ومداخلهم التي يمكن أن يتأثروا بها ويتفاعلوا مع المضامين التي تقدم لهم، ومنها: ما أحدثه التيار النصي الظاهري في الأمة عموماً وفي الغرب خصوصاً من إماتةٍ للعاطفة النبوية باسم محاربة البدعة، وأذكر أن أستاذاً شهيراً أقام في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم سنين عددا تفاخر فيها أنه لم يزر قبره الشريف أو يسلم عليه ولو مرة في إشارة إلى سلامة معتقده وسلوكه! ولنتخيل كيف ينعكس مثل هذا الخطاب والمسلك على عموم الشباب والمتبعين لتلك المدرسة وشيوخها من موت لعاطفة المحبة النبوية في قلوبهم وجفاف وفتور التعلق القلبي بالمقام النبوي الشريف.ومنها: محاكمة تعبير الصحابة عن حبهم للنبي صلى الله عليه وسلم بعقل ومنطق وفلسفة الإنسان الغربي، وأذكر أني في محاضرة للشباب في ألمانيا كنت أتحدث إليهم عن حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم وتبركهم بآثاره الشريفة، وذكرتُ طرفاً مما ورد في الآثار والسنن الصحيحة مثل: تقاتلهم على سؤر وضوئه، وطوافهم به والحلاق يحلق شعره بعد الحج فما يريدون أن تقع شعرة إلا في يد رجل منهم، وما أورده البخاري في صحيحه في حديث صلح الحديبية أن عروة بن مسعود الثقفي رضي الله عنه قال عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:”فوالله ما تنخم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم، فدلك بها وجهه وجلده”.فتململ الشباب من هذه الأحوال وصرحوا بإنكارهم لها فقال أحدهم: لو كنت مكان الصحابة ما فعلتُ فعلهم، وقال آخر: لا أصدق هذه الروايات حتى لو كانت في البخاري ومسلم، وقال ثالث بقرف واشمئزاز: أرجوك لا تذكر هذه الروايات أمام أحد في هذه البلاد.
قلتُ لهم: إن الباعث على إنكاركم هو ضعف وجفاف المحبة النبوية في قلوبكم، وأنكم تنظرون لمسلك الصحابة بالعقل المجرد لا بالقلب المحب، وتتصورون أن بصاق النبي صلى الله عليه وسلم كبصاقنا، والأمر ليس كذلك أبداً؛ لأن الداخل إلى جوف النبي صلى الله عليه وسلم ليس كالداخل إلى جوفنا والخارج منه كذلك ليس كالخارج من جوفنا، أرأيتم إلى قوله صلى الله عليه وسلم: “إني لست كهيئتكم، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني”.أرأيتم عرقاً أطيب من ريح المسك، كذلك كان عرق النبي صلى الله عليه وسلم فكانت أم سليم تجمعه في القوارير وتخلطه بطيبها ترجو بركته للصبيان ورآها النبي صلى الله عليه وسلم وأقرها على فعلها بقوله: أصبت.
واقع التدين والهوية في الغرب
تتعدد أسباب ابتعاد الشباب المسلم في الغرب عن المساجد والأنشطة الإسلامية ويحلو لكثير من المسلمين أن يغفل أو يتغافل عن هذه الصورة المخيفة ويقدم صورة أخرى يشعر معها من لا يعيش في الغرب أن المسلمين التزموا وتمسكوا بدينهم وانتقلوا إلى إدخال غيرهم من الأوروبيين في الإسلام وذلك بتصوير ونشر مقاطع مصورة لأوربيين يعتنقون الإسلام وسط تكبير وبكاء المسلمين في المساجد، وهو مشهد نفرح به كثيرا لكنَّا لا نسمع أو نتألم أو نفكر في عمل شيء للمشهد المعكوس الذي ورد في دراسة ألمانية صدرت قبل أربع سنوات تقريبا تتحدث عن أن ثلث الشباب الجديد لا يؤمن بوجود خالق للكون، والدراسة الأحدث منها التي أعدت عام 2020م وصدرت هذا العام 2021م ومن أهم نتائجها: أن نسبة المسلمين الذين يصلّون يومياً 39%.ونسبة الذين يزورون المسجد أسبوعياً (صلاة الجمعة) هي 25%.أما نسبة المسلمين الذي يلتزمون بعدم أكل لحم الخنزير وشرب الكحول فهي 70%، وعندما ناقشت نتائج هذه الدراسة مع مجموعة من الأئمة قالوا لي: إن هذه النسبة مبالغ فيها والواقع أقل منها بكثير!
ولا يختلف أمر وضوح الهوية وانتماء الأجيال الجديدة في الغرب لدينهم وأمتهم عن واقع تدينهم، وهو ما يفرض علينا جميعا اغتنام كل فرصة نعيد بها شبابنا وبناتنا إلى مساجدهم وصلواتهم وبناء هويتهم، ومن أهم هذه الفرص الواجب اغتنامها: المناسبات الدينية في مقدمتها المولد النبوي الشريف.
إحياءٌ للدين وترسيخٌ للهوية
إن إحياء المناسبات الدينية في الغرب بصورة منهجية مدروسة من شأنه أن يعمق ويرسخ هوية الأجيال الجديدة ويقوي انتماءها لأمتها؛ لأن الأمة في مجموعها حول العالم تحتفل بهذه المناسبات فعندما يشاركهم في الاحتفال بها إخوانهم في الغرب يقوى هذا الارتباط والانتماء، كما يوقظ إحياء هذه المناسبات الدينية العاطفة الدينية الكامنة في نفوس أولئك الشباب، خاصة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، فمحبة النبي صلى الله عليه وسلم قضية كلية جامعة تتفرع عنها الكثير من الجزئيات فإذا سلمت وقويت سلم وقوي أمر اتباعهم واقتدائهم بالنبي الكريم صلى الله عليه وسلم.
وبوسعنا أن نثبت وندعم الكثير من القيم الإسلامية الغائبة أو الضعيفة بإحياء هذه المناسبات، كالعلاقة بين المسجدين الحرام والأقصى في مناسبة الإسراء والمعراج، والتحول عن كل هوى أو شهوة للنفس في تحويل القبلة، وسلامة الصدر نحو الخلق في ليلة النصف من شعبان، أو التوازن بين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله كما في الهجرة، وهكذا أبداً.
إننا بإحياء هذه المناسبات في الغرب نقدم للأجيال الجديدة من أبناء المسلمين بديلاً أصيلاً يكافئ في أعينهم ما يرونه كل عام من احتفالات بأعياد ومناسبات تعكس ثقافة مجتمعهم تتشكل بها هويتهم ويبتعدون بغياب تلك البدائل شيئا فشيئا عن دينهم ونبيهم وأمتهم.
خطواتٌ عملية
إن المسلمين في الغرب هم أحق الناس باغتنام المناسبات الدينية والاحتفال بها، وعلى رأسها الاحتفال بميلاد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ لإيقاظ المحبة النبوية وتعميقها في نفوس الأجيال الجديدة من أبناء المسلمين في الغرب، ولتعريف المجتمع بنبي الرحمة ورسالته العالمية في شهر مولده، والتذكير بالنبي صلى الله عليه وسلم ورسالته في شهر مولده خير من قصر التعريف به على أحداث محاولة التطاول على مقامه الشريف برسم أو فن، خاصة وعموم الأوربيين يقدسون يوم الميلاد ويحتفون به ويعبرون عن تقديرهم وحبهم لأى شخص بتهنئته بيوم مولده وتقديم الهدية له فيه، فالاحتفاء والاحتفال بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم هو عمل يتناغم ويتوافق مع الشخصية والتفكير الأوروبي.
ومن الأفكار العملية في شهر ربيع الأنور للاحتفال بميلاد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم:
- تنظيم المسابقات في البيوت والمساجد التي تتناول سيرة النبي صلى الله عليه وسلم وتعرض جوانب العظمة في حياته.
- مدارسة كتاب من كتب الشمائل أو القصص النبوي في البيوت والمساجد وتبسيطه بلغة وأسلوب يناسب الأعمار والأحوال.
- تنظيم مسابقة فنية لأفضل أغنية وقصيدة وقصة عن النبي صلى الله عليه وسلم باللغات الأوروبية وأن يُربط حدث المسابقة بشهر ربيع الأول من كل عام.
- ندوة مفتوحة للمسلمين وغير المسلمين لمناقشة كتابات الفلاسفة الغربيين عن النبي صلى الله عليه وسلم.
- اختيار نماذج من الأحاديث النبوية الموجزة وترجمتها ونشرها في لوحات إعلانية بارزة بأجر من تبرعات المسلمين تحت عنوان: من أقوال النبي محمد صلى الله عليه وسلم في شهر مولده.
- اعتبار الثاني عشر من ربيع الأول يوماً تفتح فيه المساجد وتستقبل غير المسلمين للتعرف على النبي صلى الله عليه وسلم.
- المشاركة في معرض السيرة النبوية المجسم باللغات الأوروبية المختلفة.
- مدارسة الشبهات المثارة حول النبي صلى الله عليه وسلم وزوجاته في شهر مولده.
- دعوة الجيران للطعام والحديث معهم حول حياة النبي صلى الله عليه وسلم بمناسبة ذكرى مولده.
- الوقوف كل عام مع حدث أو أزمة تشغل المجتمع، وكيف عالجها النبي صلى الله عليه وسلم في موقف أو حديث.
المناسبات الدينية ليست أعياداً
من يرفض إحياء المناسبات الدينية والاحتفاء بها يقول: إن الأعياد في الإسلام هما عيد الفطر والأضحى، فمن أين لكم بهذه الأعياد الجديدة، عيد المولد والهجرة وغيرهما؟ واختراع عيد جديد غير العيدين المعروفين هو إحداثٌ في دين الله وقد حذرنا منه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله:” من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد”
ولهؤلاء أقول: إن العيد في الإسلام له سمات وأحكام يختص بها ليكون عيداً منها: أن يومه محدد معروف فهو أول شوال للفطر، والعاشر من ذي الحجة للأضحى، وأنه يبدأ بالتكبير والصلاة وله سننه وأحكامه المعروفة كالأضحية في الأضحى وزكاة الفطر في الفطر، فلا يمكن أن يعتبر العيدُ عيداً في الإسلام إلا بهذه الشعائر والأحكام، وإن أُطلق على يوم أو شهر ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم عيدا فمجازاً؛ لأنه يعود على المسلمين وعلى البشرية بالفرح والسرور.
والاحتفال المشروع بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم وهذه المناسبات ليس إحداثاً في الدين ما ليس منه، بل هو إن اعتُبر إحداثاً فهو بما هو منه، كالتعريف بشمائله وسيرته وتذكير المسلمين بسنته ووجوب اتباعه والاقتداء به صلى الله عليه وسلم.
كيف نحتفل بمناسبات لم يحتفل بها النبي صلى الله عليه وسلم أو الصحابة أو السلف؟
هذا السؤال هو أهم ما يحتج به من ينكر ويبدِّع المحتفل بميلاد النبي صلى الله عليه وسلم، فلو كان مشروعا لدعانا إليه ولفعله من هم خير منا وهم الصحابة والسلف الصالح رضوان الله عليهم أجمعين.
والجواب: أن جمهور الأصوليين على أن الترك النبوي المجرد لا يفيد حرمة الفعل أو وجوب الترك؛ فالنبي صلى الله عليه وسلم ترك الاحتفال بيوم مولده، لكنه لم ينه عنه بقول أو فعل، ودلالة الترك النبوي المجرد على الحكم الشرعي محل خلاف بين الأصوليين، فذهب كثير منهم إلى القول بعدم دلالته على الوجوب؛ لأنه لو دل الترك على الوجوب لدل الفعل على الوجوب كذلك، وليست كل الأفعال النبوية دالة على الإيجاب فكذلك التروك المجردة لا تدل على وجوب الترك.
ومن الأصوليين من قال بدلالة الترك على الكراهة، ومنهم قال بخلاف الأولى، ومنهم من قال بعدم دلالته على شيء، وأنه لا يفيد سوى مشروعية الترك، وقد نظم الشيخ عبدالله بن الصديق الغماري في ذلك أبياتاً منها:
الترك ليس بحجة في شرعنــــــــــــ ***ـ لا يقتضى منعاً ولا إيجابـــــــــــــــــــــــــــــاً
فمن ابتغى حظراً بترك نبينــــــــــــــــــــا *** ورآه حكماً صادقاً وصوابـــــــــــــــــــــاً
قد ضل عن نهج الأدلـــــــة كلهـــــا *** بل أخطا الحكم الصحيح وخابــا
لا حظر يمكن إلا إن نهـــــــــــي أتى *** متوعدا لمخالفيه عذابــــــــــــــــــــــــــــــــــــاً
أو ذم فعل مؤذن بعقوبــــــــــــــــة أو *** لفظُ تحريم يواكب عابــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
وعليه فلا يصح الاحتجاج بعدم احتفال النبي صلى الله عليه وسلم بيوم مولده، ولا الصحابة أو السلف من باب أولى.
على أنه لم يوجد في عهده صلى الله عليه وسلم أو صحابته الكرام ما يقتضي الاحتفاء أو الاحتفال بمولده الشريف فهو معهم وبين أظهرهم، والمقاصد التي نروم تحقيقها اليوم بالاحتفال كانت متحققة وموجودة بأتم وأفضل صورة، فلم يكن التفكير في الاحتفال بها وارداً لهذا السبب، وكل ما انتفى مقتضاه في العهد النبوي ثم حدث له بعده ما يقتضيه، فهو جائز ومشروع من حيث الأصل، وحكمه بحسب المصلحة المبنية عليه، وتحريمه بحسب ما يقع فيه من مخالفة للشرع، والمصالح الواقعة والمتوقعة بالاحتفال المنضبط بميلاد الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم كثيرةٌ لا تخفى خاصة في السياق الأوروبي، وإن وقع فيها ما يخالف الشرع فيجب أن ينكر بفقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وألا يشوش على إحياء المناسبات الدينية بمثل هذه المخالفات المرفوضة شرعا.